ليزا تراكي: من أفغانستان إلى فلسطين.. رحلة في العطاء والمعرفة

"لا أدعي أنني فلسطينية.. لكنني عشت في فلسطين أكثر من 43 عاماً. بدأت علاقتي مع هذه الأرض وأنا الأفغانية القادمة من كابل إلى الولايات المتحدة، عندما تعرفت على طالب جامعي فلسطيني قدم للدراسة في الجامعة التي كنت أدرس فيها. قبلها كانت علاقتي مع هذه البقعة من العالم، علاقة سطحية، ومعرفتي ضئيلة عن القضية الفلسطينية، حيث كنت على علاقة مع الطلبة الإيرانيين في حركتهم المناهضة لنظام الشاه. وخلال دراستي في الولايات المتحدة تعرفت على حركة الطلبة المناهضة لحرب أمريكا على فيتنام، وكانت أول مرة أتعرض بها للغاز المسيل للدموع هي في شوارع مدينة بيركلي في كاليفورنيا أثناء التظاهرات ضد الحرب."

لم تكن تدرك أستاذة علم الاجتماع ورئيسة برنامج الدكتوراة في العلوم الاجتماعية د. ليزا تراكي أن علاقة الحب التي ربطتها مع زوجها د. جورج جقمان، ستحملها عام 1976 إلى فلسطين، وستكون جامعة بيرزيت –الجامعة الناشئة في حينها-هي الحاضنة. تقول د. تراكي: "قدمت وزوجي طلبات إلى جامعات فلسطينية، وكانت جامعة بيرزيت هي الخيار الأفضل. وجودنا بهذه الجامعة لم يكن مجرد عمل مهني أكاديمي سنقوم به، بل كان عبارة عن رسالة وتحدٍّ كبير لظروف القهر والظلم التي يعيشها الفلسطيني في ظل هيمنة الاحتلال".

حكايتي مع العربية 

عندما وصلت د. تراكي إلى جامعة بيرزيت، كانت لغة التدريس الأساسية هي اللغة الإنجليزية، وبدأت بتعلم اللغة العربية عبر القراءة المستمرة باللغة العربية، ولكن التحدي الأكبر الذي واجه د. تراكي هو تغير البنية الاجتماعية داخل الجامعة وما نتج عنها من حراك طلابي قاد لحركة تعريب التعليم. تقول د. تراكي: "منذ تحول الكلية إلى جامعة، ومع توسع الدعم المقدم من منظمة التحرير الفلسطينية لمؤسسات التعليم الفلسطيني، تدفق طلبة مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل الفلسطيني 1948، ومن القرى ومخيمات اللاجئين إلى الجامعة، فلم تعد الجامعة حكراً على النخبة، وأدت "دمقرطة التعليم" إلى توسع القاعدة الاجتماعية والمناطقية للجسم الطلابي، وأصبحت الجامعة أنموذجاً مصغراً عن المجتمع الفلسطيني".

وتضيف: "هذا التطور الاجتماعي الذي شهدته الجامعة، أدى إلى بروز دعوات طلابية تطالب بتعريب التعليم العالي، وهذا ما تبنته جامعة بيرزيت لاحقاً، وأصبحت لغة التدريس في عدد كبير من المقررات الدراسية هي اللغة العربية، وهنا ازداد التحدي أمامي لتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة ومحادثة بشكل أكبر، من أجل تدريس علم الاجتماع باللغة العربية، واعتبر نفسي نجحت بهذا التحدي في وقت قياسي". 

في مواجهة مع الاحتلال 

كانت إحدى أكثر المحاولات لتقييد الجامعات الفلسطينية إصدار الأمر العسكري 854 الخاص بالتعليم العالي في العام ١٩٨٠ الذي ينص على اعتماد القانون الأردني فيما يخص التعليم، وفي هذه الحالة كان يعني إخضاع التعليم العالي بشكل كامل للحكم العسكري، وتحديداً إخضاع قبول الطلبة والتوظيف والمناهج الدراسية لرقابة الاحتلال، وكذلك اشتراط حصول الأساتذة الدوليين على تصاريح عمل بالتوقيع على نموذج طلب تصريح يتضمن بندا يدين وينبذ منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها منظمة إرهابية. 

بقي الأمر عسكري لمدة سنتين تقريباً غير مطبق، ولكن في العام ١٩٨٢ أصرت الإدارة المدنية الإسرائيلية على التوقيع على الوثيقة. فرفض أكاديميو وإدارة جامعة بيرزيت هذا الأمر، وهنا بدأت عمليات الإبعاد التي شملت أساتذة من جامعة بيرزيت وجامعة النجاح وجامعة بيت لحم في العام ١٩٨٢. في ذلك الوقت عندما لم يكن بإمكان الأساتذة الدوليون البقاء في فلسطين، فقد سافر جزء منهم إلى قبرص لفترة قصيرة وقاموا بوضع خطة متكاملة للتواصل مع المؤسسات الدولية وتشكيل ضغط على دولة الاحتلال.

تقول د. ليزا: "عند عودة عدد من الأساتذة من قبرص، وفي ضوء الحملة الدولية للتضامن مع الجامعات الفلسطينية ضد هذا الإجراء، قامت الجامعة بابتكار حل مبدع لمسألة التوقيع بقص جزء من الوثيقة وهو البند ١٨ الذي ينص على عدم دعم ومناصرة منظمة التحرير، وإعادة تصوير الوثيقة دون البند المرفوض (لم تكن لدينا أجهزة حاسوب لتسهيل العملية آنذاك). ولم يتم اكتشاف ذلك إلا بعد عدة أشهر. وفي النهاية، بقينا في الجامعة، وتم تجميد الأمر العسكري 854 عام 1982 بفعل مقاومة الجامعة وحملات التضامن الدولية. ولكن المعركة لم تنتهي بعد، إذ تواجه مجموعة من الزميلات والزملاء في الجامعة اليوم حظر دخولهم إلى فلسطين والتدريس في الجامعة.

اهتمامات بحثية متنوعة.. وبرنامج للدكتوراة

نشرت د. ليزا تراكي عدد من المقالات في الكتب والمجلات المتخصصة عن المنظمات الجماهيرية الفلسطينية، والحركة الوطنية الفلسطينية، والإسلاميين الأردنيين، وعلاقات النوع الاجتماعي، والتاريخ الاجتماعي للمدن الفلسطينية. كما ساهمت في كتابة تقارير تتناول قضايا اقتصادية-اجتماعية وقانونية مختلفة

وشغلت مناصب أكاديمية عديدة، من رئيسة دائرة إلى عميدة للدراسات العليا إلى نائب رئيس للشؤون المجتمعية، وساهمت في تأسيس برنامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت، وتترأس البرنامج حاليّاً.

انطلق البرنامج، وهو الأول من نوعه على مستوى فلسطين والدول المجاورة، في العام الأكاديمي 2014/2015. وحول تأسيس البرنامج، تقول د. تراكي: "فكرة تأسيس هذا البرنامج المهم جاءت من د. إصلاح جاد عام 2011، حيث قدمت مقترحاً بذلك لمجلس الجامعة، وبناء على ذلك تم تشكيل مجموعات عمل من أكثر من 30 عضو هيئة أكاديمية من جامعة بيرزيت وبعض الأكاديميين في الخارج لتطوير مساقات البرنامج المختلفة، وتوج هذا العمل في شهر أيار 2014 بعقد ورشة عمل مركزية تمت خلالها مناقشة الخطط التفصيلية لجميع المساقات، تمهيداً لإطلاق البرنامج. وتشرف على البرنامج اليوم لجنة برنامج مكونة من 7 أعضاء من دوائر وبرامج الجامعة المختلفة، علماً بأن معظم الأعضاء كان لهم دور في الأعوام الماضية في الإعداد للبرنامج والتحضير للمساقات، وفي لجنة القبول.

وتضيف: "يتكون البرنامج من 54 ساعة معتمدة، منها 30 ساعة مخصصة للمساقات، و24 ساعة للأطروحة، والغاية الرئيسية للبرنامج هي تهيئة الطلبة ليصبحوا قادرين على دراسة الظواهر الاجتماعية بإبداع، وإنتاج معرفة جديدة، وتقديم تحليل نقدي للمفاهيم والأفكار السائدة، وتحمّل مسؤولية نشر المعرفة داخل وخارج البيئة الأكاديمية. وبشكل عام، يسعى البرنامج للإفادة من تجارب أخرى خاصة في دول جنوب العالم، لتفادي المركزية الأوروبية في المساقات المختلفة وفي مداخل التحليل والأطر النظرية المستخدمة في تفسير الظواهر الاجتماعية. وكما هو معروف، توجد أطر تحليلية مختلفة ومتنافسة في حقول العلوم الاجتماعية من الضروري للطلبة الاطلاع عليها، دون الارتهان لها بصورة غير نقدية، خاصة بالنظر إلى الحاجة لفهم تجارب الشعوب التي استُعمِرَت في المنطقة العربية وأفريقيا وآسيا".