هل يصلح التعلم الالكتروني ما أفسده "كورونا"؟!

على الرغم من التماثل الجمالي للرقم 2020 إلا أن المفاجآت المتتالية التي أطل بها هذا العام جعلت منه أشبه بساحر تفيض قبعته بالأرانب التي تتقافز في غير اتجاه. أحد المفاجآت تمثل بفايروس كورونا، الذي أصبح مرضه يعرف اصطلاحاً ب "كوفيد-19". وكما هو معلوم، فقد تسبب هذا الفايروس بأول ضحية في الصين، وما انفك من ثم يطوف البلدان ممتحناً الأنظمة الصحية والاقتصادية والاجتماعية، ومعطلاً للأنساق الحياتية المعتادة في ما يقارب 120 بلداً من مختلف قارات العالم حتى اليوم، وهو ما دعى منظمة الصحة العالمية للإعلان عنه مؤخراً كوباء عالمي.

بحسب مؤشر الأمن الصحي العالمي (GHS)، الذي يعتبر مبادرة حديثة تهدف لرفع الوعي والجاهزية تجاه المخاطر الصحية والوبائية المتنامية في العالم، فإن دول العالم تحتاج للقيام بإجراءات متعددة من أجل تحسين مناعتها تجاه الأوبئة، تندرج تحت ستة معايير يأتي في طليعتها الوقاية، بالاضافة إلى الكشف والتبليغ المبكر، سرعة الاستجابة، صلابة النظام الصحي، الالتزام بالمعايير الدولية، وبيئة المخاطر. 

في هذا السياق، ونظراً لمركزية عنصر الوقاية في محاصرة المرض، فقد شرعت الكثير من الحكومات بأخذ إجراءات تحد من الكثافة البشرية ما أمكن في أماكن التجمع المعتادة. وكان قطاع التعليم، بطبيعة الحال، من أوائل القطاعات التي طبقت عليها هذه السياسة، وهو ما رفع من أسهم موضوع التعليم أو التعلم الالكتروني في المدارس والكليات والجامعات، التي بدأ الكثير منها فعلياً، تحت ضغط الظرف الاستثنائي، بتوسيع مساحة الإفادة منه. وعلى سبيل المثال، فقد باشرت الصين، الدولة الأكثر تضرراً من الفايروس حتى الآن، بتنظيم دورات تدريبية للمعلمين على استخدام الوسائط الالكترونية في التعليم، بالتزامن مع جهود مبذولة لإطلاق مستودع سحابي وطني على الإنترنت، يتم من خلاله توفير مجموعة كاملة من المواد التعليمية والدورات للطلبة.

ما هو التعلم الالكتروني (e-learning)؟

يأتي التعلم الالكتروني كأحد ثمار الثورة المعلوماتية الكبيرة التي يعيشها العالم المعاصر، والتماهي المتزايد بين العالمين الواقعي والافتراضي، من خلال النمو المطرد للمحتوى الالكتروني وللذكاء الاصطناعي في ثنايا الحياة اليومية. في هذا الإطار فقد طرأت تغييرات هامة على العملية التعليمية خلال العقود الأخيرة على مستوى الآليات والأهداف والجمهور، بشكل أدى إلى إنخراط متزايد لتكنولوجيا المعلومات في طرق عرض المواد التعليمية، وعزز التركيز على تطوير مهارات التعامل مع التكنولوجيات الحديثة، وجعل التعليم عابراً للفئات العمرية التقليدية من خلال توفير الفرص للعمل والتعليم بشكل متزامن. 

من الناحية العملية، يستخدم تعبير التعلم الالكتروني بشكل فضفاض للتدليل على استخدام الوسائط الحاسوبية والإلكترونية المتعددة من أجل ايصال وعرض المعلومات والمواد التعليمية. ومن اللافت أن مفردة "التعلم -learning" يتم استخدامها في الصيغة الانجليزية، بينما يتم ترجمتها للعربية في غالب الأحيان بمفردة "تعليم". واستخدام كلمة التعلم هنا يأتي ربما للتدليل على الدور التفاعلي النشط الذي يلعبه المتعلم في العملية التعليمية. ليس للتعلم الالكتروني شكل ثابت محدد، فهو يشتمل على أنماط واستراتيجيات تتيح للمعلم وللمتعلم خيارات متعددة، لعل ابسطها يتمثل باستخدام الحاسوب في إعداد المحاضرات. وفي العادة فإن التعلم الالكتروني يصنف مفاهيمياً ضمن أنواع متعددة، يمكن اختزالها ضمن فئات ثلاث؛ يتضمن أولها استخدام التكنولوجيا كقيمة مضافة للعملية التعليمية التقليدية، وهو مطبق حالياً بدرجات متفاوتة في مختلف المؤسسات التعليمية. أما الثاني، الذي يعرف بالتعليم المدمج، فينطوي على إجراء العملية التعليمية جزئياً بشكل وجاهي وجزئياً بشكل الكتروني. فيما يقوم النوع الثالث على إجراء العملية التعليمية بالكامل من خلال الوسائط الالكترونية، وهو ما تسعى المؤسسات التعليمية حالياً للإفادة منه قدر المستطاع، نظراً للظروف السائدة. 

مكاسب وتحديات ..

تزخر المراجع ذات الصلة بتعداد المكاسب التي يوفرها التعليم الالكتروني، ومن ضمنها، تنويع مصادر العملية التعليمية وتقديمها في صورة معيارية نموذجية، تطوير دور ومهارات المتعلم، تسهيل تبادل الخبرات والتجارب للمعلمين والمتعلمين فيما بينهم، تحسين إدارة الوقت، وغير ذلك. في المقابل، فإن للموضوع تحدياته، وفي مقدمتها غياب أو انحسار التواصل الإنساني المباشر بين المتعلم والمعلم وما يرتبط بذلك من تأثيرات تعليمية وسيكولوجية، عدم ملائمة أنساق التعلم الالكتروني لكثير من المساقات العملية، ضرورة بلورة أساليب مناسبة لتقييم تحصيل الطلبة، والحاجة لبنية تحتية فنية ملائمة، حيث يمثل هذا العامل تحدياً رئيسياً في السياق الفلسطيني.

 إن الشأن الذي يؤرق الكثيرين حالياً يتمثل في كون موضوع انتشار المرض وما قد يستتبعه من تعطيل للمؤسسات التعليمية لا زال مفتوحاً على احتمالات غير مؤكدة، قد يطول مداها. وهذا يقتضي تحضير سيناريوهات مختلفة للتعاطي مع الأوضاع الناشئة، تبدأ من ضرورة الاستثمار في مستودعات افتراضية مركزية لتنزيل وتحميل المواد التعليمية، وتعزيز البنى التحتية البشرية والتقنية وتقوية شبكات الإنترنت، علماً بأن ذلك يعد ضرورة غير مرتبطة بالظرف الحالي حصرياً.  وعلى صعيد الجامعات، المثقلة أصلاً بتحديات طويلة الأمد، والتي سارعت إلى استنفار مقدراتها للحفاظ على قدر من التواصل مع الطلبة، فإن هناك حاجة لتضافر الجهود بين القطاعات المختلفة من أجل عبور هذه المرحلة بأقل خسائر، بل حتى بمكاسب تأخر تحقيقها، تتعلق بالقيمة المضافة للتكنولوجيا الرقمية في العملية التعليمية. من هنا تبرز أهمية بلورة سياسة منظمة، مركزة، ومتدرجة للتعاطي مع موضوع التعلم الالكتروني خلال هذه الفترة الاستثنائية، بما يتأتى معه تحديد المساقات التي يمكن تدريسها في المرحلة الحالية، وضبط ايقاعها الزمني وطرق التقييم ما أمكن، مع الاستمرار في مراكمة المعارف والمهارات حول استخدام الوسائط الالكترونية لدى المعنيين من أساتذة وطلبة، وتبني استخدام وسائط موحدة تخفف من تشتت الطلبة والأساتذة بين التطبيقات والبرمجيات التي يزخر بها العالم الافتراضي.