في يومي الأول كنائب-ة رئيس جامعة بيرزيت للتنمية والاتصال

عندما لاحت فرصة عملي في جامعة بيرزيت، قبل عشر سنوات، أحاطني العديد بتحذيرات من الغرق في بيروقراطية المؤسسة الأكاديمية، ولحرصهم، سلطوا الضوء على الصعوبات والتحديات. قررت آنذاك أن أتبع حدسي، وضعت الوصايا على الرف وبدأت.

لم تكن البدايات سهلة، كان هناك الكثير من التحديات. بدأت عملي كمديرة للعلاقات العامة لمدة عامين، توليت بعدها مسؤولية تأسيس أول مكتب لتعزيز الموارد في الجامعة. تكلل عملنا بالنجاح وباستقطاب مساهمات رئيسية لدعم الجامعة حيث توّجت هذه الجهود بحصولنا عام 2015 على جائزة دولية من مؤسسة Council for Advancement and Support of Education إذ حققنا المركز الفضي كبرنامج ناشئ لاستقطاب الدعم.

الجهد المبذول والانجاز الذي تحقق خلال تلك الفترة من العمل أنتج أسئلته أيضاً، لقد أنتجت تلك الفترة الكثير من الأسئلة حول العطاء ودوره في تقدم المؤسسة. لقد دفعتني تلك الأسئلة إلى مواصلة رحلة التعلم مستفيدة من التجربة.  غادرت المنصب واستكملت درجة الماجستير في دراسات العطاء من جامعة إنديانا في الولايات المتحدة الأمريكية. ها أنا قد عدت محملة بأسئلة أكثر، وأهمها أن فلسطين وجامعة بيرزيت سياق مختلف، كيف أقرن النظري والعملي وأشكّل الخاص لسياقنا الفلسطيني. كلتا التجربتين في العمل وفي الدراسة ساهمتا في إنضاج رؤيتي لدور عطاء الأفراد في تقدم الجامعة.

أتطلع خلال هذه المرحلة إلى المساهمة في تعزيز مفهوم العطاء، حيث تتركز رؤيتي حول الانتقال من العمل الخيري إلى التغيير الاجتماعي، عبر تغيير الصورة النمطية للتبرعات ومفهومها المحدود من كونها مصدراً لسيولة نقدية وحل للأزمات المالية أو لدعم الموازنة إلى المعنى الأوسع للتطوير والتغيير الاجتماعي وتحقيق الاستقرار المالي.  

العطاء هو فضاء للمشاركة ليس بالمال فقط وإنما في الوقت أيضاً، لاتقتصر المساهمة على المقتدرين مالياً إنما هو مساحةٌ يدعم المساهمون خلالها القضايا التي تشغلهم ويحققون دورهم الإنساني والوطني، مساحةٌ للمشاركة وتحقيق الديمقراطية. هو مصدر مالي ليس محملاً بشروط التمويل، يوفر المرونة للمؤسسة ويحمل تعاقداً ضمنياً بالشفافية والمساءلة وحسن إدارة المال. والشّرك هو في قولبة عطاء الأفراد بقوالب التنمية الدولية، وجرّه إلى نفس الزاوية. المغالطة تأتي في إلصاق السعي لاستقطاب مساهمات الأفراد بمفهوم "الشحدة" أو التسول.

اجتذاب عطاء الأفراد هي رسالة جليلة تقدم الفرص للمهتمين بالبحث عن معنى لحياتهم عبر المشاركة في قضايا إنسانية ووطنية نبيلة. إن ثقافتنا الاجتماعية في فلسطين وفي العالم العربي هي ثقافة عطاء، تعتمد قيم التكافل وتركز على المحيط الاجتماعي الأقرب و العائلة كمحور لذلك. العونة والإغاثة هي أيضاً قيم رئيسية لعطاء الأفراد في مجتمعاتنا، واليوم أكثر من أي وقت مضى نحتاج إلى مدّ هذا العطاء نحو المؤسسات والمجتمع بمحيطه الأكبر وقضاياه الأوسع.

جامعة بيرزيت قصة عطاء لامحدود بُنيت بحلم امرأة ومثابرتها إذ أسست نموذجاً في عطاء العائلة للمجتمع ، وتطورت الجامعة بمساهمات من مجتمع بيرزيت نفسه من الأكاديميين والطلبة والموظفين وعائلات المدينة.

أبدأ اليوم رحلتي في تطوير عطاء  الأفراد لجامعتنا، ولكنني أبدأ بعد خمسٍ وتسعين عاماً منذ تأسست بيرزيت كمدرسة ابتدائية للبنات في ريف فلسطين. أبدأ بينما رحلة الجامعة ماضيةٌ في مسيرتها، أبدأ كأول امرأة تتولى هذا المنصب ورابع امرأة في مجلس الجامعة المكوّن من ستة عشر عضواً، في أكبر مشاركة للأكاديميات والمهنيّات في المجلس. يشغلني التفكير أين نبدأ، هل نبدأ من احتياجات اليوم والمصاعب المالية التي تجابه جامعة بيرزيت كما تجابه المؤسسات الفلسطينية والمجتمع بأكمله.

هل نركض وراء ضغط السيولة لليوم وللشهر ولآخر العام؟ نعم. هل نفكر في المستقبل، في الخمس وتسعين سنة القادمة أين ستكون جامعتنا. ندرك أن معنى المستقبل قد تغيّر في فلسطين فقد تعودنا القلق اليومي على أرضنا، كلما مرّ مساء نشعر أننا انتصرنا، فقد بقينا على الأرض.

حُلم المستقبل هو همّ اليوم، الحفاظ على الأرض. في جامعة بيرزيت نقف على أرض صلبة وإنجازات مُلهمة، والسؤال كيف نساهم في الحفاظ على مركزية جامعتنا من دلالة الوطن ورؤيا المستقبل للفلسطينيين.

والحلم أنه سيكون لكل فلسطيني حصة في الجامعة، لكل المدافعين عن العدالة والحرية وحقنا في أرضنا سيكون لهم حصة في الجامعة. ستجمعنا جامعتنا في فضائها الواقعي والافتراضي، وإن لم يستطع الكثيرون حول العالم من الوصول إليها اليوم  بسبب طغيان الاحتلال، حُلمنا أنهم سيصلون غداً وسنعمل معاً من أجل جامعة بيرزيت، رمز الصمود على الأرض والنضال من أجل الحرية.