ريما ترزي تتحدث عن الحياة الثقافية الفلسطينية

لم يستطع تخطي ريما ترزي عقدها الثامن، أن يخفي تلك البسمة المتفائلة والضحكة الجذابة التي ترافقك أثناء الحديث معها، روحها الشابة وأناملها التي يصدح منها أعذب الألحان، ومعايشتها لبيرزيت المدرسة والكلية والجامعة، جعلت الذكريات والحكايات تتراكم في جعبتها وتنسجها اليوم لـنا لتروي صورة عن الحياة الثقافية الفلسطينية في الماضي.

تقول ترزي: "قضيت كل أيام طفولتي في مدرسة ثم كلية بيرزيت، وتخرجت منها قبل النكبة الفلسطينية بعام واحد، أي في عام 1947، وأعمق الذكريات التي أحملها تتركز حول الجو العام الذي كان سائدًا في الكلية في حينه، لقد كان جوًّا عائليًّا مفعمًا بالمحبة والدفء والروح الوطنية العالية، وقد لعبت مديرة المدرسة "عمتي" نبيهة ناصر دورًا كبيرًا في إرساء هذا الشعور بالحميمية.

وتضيف: "ترتبط ذكرياتي في المدرسة بأحلامنا البريئة والمثالية بالوحدة العربية، فقد كانت مؤسسة المدرسة ومديرتها، تغرس في مسامعنا ليل نهار أن الوحدة العربية، وبالتالي النهضة العربية، هي الوسيلة للتخلص من الاستعمار البريطاني ومواجهة الهجمة الصهيونية. وكانت الأناشيد الوطنية تنشد في كل مناسبة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، "موطني"، "وبلاد العرب أوطاني"، و"نحن الشباب"، و"نشيد الضاد". وقد كان في حينه، إضافة إلى الكوادر التدريسية الفلسطينية، معلمون ومعلمات من لبنان، كلهم يحملون الرسالة إياها، منهم الأستاذ الشاعر وديع ديب ناظم كلمات نشيد الكلية، الذي ظل نشيدًا للجامعة، والأستاذة الدكتورة سلوى نصار التي أصبحت فيما بعد رئيسة لكلية بيروت للبنات.

 

بيرزيت البلدة.. المدرسة

"كان الهدوء يخيم على بيرزيت في تلك الأيام، حيث إن حركة السير كانت خفيفة جدًّا، والمواصلات اقتصرت على عدد قليل من باصات شركة بيرزيت بالإضافة إلى سيارة المدرسة التي كان يقودها أقرباء أو أصدقاء لتلبية الحاجات الأساسية، أهمها مصاحبة عمتي إلى باب الخليل في القدس لشراء المؤن للأقسام الداخلية في مدرستيْ البنات والبنين، فعلى الرغم من اضطلاعها بعدد كبير من المسؤوليات والمهام المتشعبة، لم تنجح عمتي يومًا في تعلم السواقة! وكانت من مهام هذه السيارة إحضار أساتذة الموسيقى والفن من مفرق عين سينيا، حيث يتوقف باص القدس في طريقه إلى نابلس في وقت محدد.

على الرغم من انعدام الكثير من وسائل الراحة كما ورد سابقًا، ومن عدد من القوانين الصارمة التي كانت مفروضة علينا، كعدم السماح لنا بارتياد الدكاكين لشراء الطيبات، كانت حياتنا ممتعة للغاية وثرية بالنشاطات الثقافية والرياضية خارج المقاعد الدراسية. فالموسيقى والمسرح والرسم والرقص الفولكلوري وسوق عكاظ وكرة السلة (للفتيات) وكرة القدم (للشباب) والعروض الرياضية بفرقها المتعددة، والنزهات والشطحات، كانت كلها جزءًا أساسيًّا من حياتنا المدرسية. كما أذكر كيف كنا نستمتع في النزول إلى ملعب جفنا لنشجع فريق الكلية في مباريات كرة القدم مع فرق المدارس الأخرى!

وهذا الهدوء وأفق البلدة الواسع مكننا من التمتع بالنزهات اليومية لقطف الأزهار في موسم الشتاء والربيع ولقطف المشمش الأخضر من حواكير أهل البلد خلسة، الذي كنا نعاقب عليه بشرب زيت الخروع، إذا وقعنا متلبسين! أذكر يومًا أن عمتي أمسكتني متلبسة في قطف المشمش الأخضر، لكنها لم تعاقبني وسامحتني، يومها أحسست أن رابطة القرابة شفعت لي، فكررت الموقف ونلت عقابات متتالية بنكهة الخروع "المقززة لطفلة في ذلك الحين".

 

عشق الموسيقى

عزفت ترزي للمرة الأولى على البيانو عام 1939 عندما كانت في السابعة من عمرها، على يد الموسيقي سلفادور عرنيطة في مدرسة بيرزيت، وأرسلها أهلها إلى لبنان عندما كانت في الخامسة عشرة لتعلم الموسيقى، ثم انتقلت بعد ذلك بعامين إلى فرنسا لمواصلة مشوارها في تعلم الموسيقى.

في عام 1954، انخرطت في مجال التعليم في كلية بيرزيت وفي النشاطات الموسيقية والثقافية بما في ذلك تلحين الأغاني والأنشودات الخاصة لجوقة الكلية. بعد عام 1967، وخلال تلك الفترة من نشاطها التطوعي في عدد من الجمعيات، كتبت ولحنت أنشودات وأغاني في شريط "أحلام شعبي" وأسطوانة "إلى متى" وكتاب "نيالك يا عصفور" لأغاني الأطفال بالعربية والإيطالية والإنجليزية.

وكانت ترزي قد قدمت مجموعة من الأغاني التي لحنتها في مناسبات عديدة ومنها أغنية إلى أسرى سجن نفحة الصحراوي الذين قاموا في عام 1980 بإضراب عن الطعام استمر 33 يوما واستشهد بسببه ثلاثة أسرى.

في عام 1993، ساهمت ريما في تأسيس المعهد الوطني للموسيقى/ جامعة بيرزيت (معهد إدوارد سعيد الوطني للمويسقى) وترأس حاليًّا مجلس مشرفيه، كما أنها عضو في مجلس أمناء جامعة بيرزيت.

ترى ترزي أنه رغم دراستها الـموسيقية في فرنسا، إلا أنها متأثرة أكثر بالأناشيد الدينية الإسلامية وكذلك الـموسيقى الكنسية في فترة كانت تشهد فيها الأراضي الفلسطينية حركة موسيقية نشطة في الأربعينيات. وقالت: أعتمد في معظم أعمالي الـموسيقية على تداخل وتناغم الأصوات الـمختلفة بحورها مع الغناء الـمنفرد بمرافقة البيانو، الآلة التي أجيد العزف عليها، وربما أكون دمجت بين اللحنين الشرقي والغربي.

وأضافت: لقد بقيت في كل ما كتبت ولحنت وعزفت أسيرة لواقع شعبي رغم محاولاتي أن أخرج من ذلك، إلا أنني كنت دائمًا أعود إليه، فقد لحنت لشعراء فلسطينيين وعرب، منهم كمال ناصر وعمر أبو ريشة وإبراهيم طوقان وفدوى طوقان وسميح القاسم ومحمود درويش وأبو القاسم الشابي.

وتدعو ترزي إلى نشر تعليم الـموسيقى في الـمدارس حتى تكون متاحة للجميع. وقالت: بإمكان الـمدارس التي لا تملك آلات موسيقية أن تعلـم طلابها على الغناء. ذلك لا يحتاج إلى إمكانيات مادية، فقط علـموهم الغناء، لا نريد أن نحلـم أكثر من اللازم.