ملاحظات حول انتخابات الرئاسة الأمريكية (3 من 3): الأثر على السياسة الخارجية

أما وقد فاز دونالد ترامب وأصبح الرئيس المنتخب للولايات المتحدة الأمريكية، فكيف سيكون عليه مضمون السياسة الخارجية في عهده، وكيف سيضع عناصر برنامجه الانتخابي المتعلقة بهذا الخصوص موضع التنفيذ حينما يتسلم مهام منصبه في كانون الثاني القادم، علماً أن هذه العناصر كان عليها خلاف داخلي حاد في الأوساط السياسية، ليس من قبل الحزب الديمقراطي فقط، وإنما في داخل حزبه أيضاً؟

قد يكون مفيداً في البداية التأكيد على أن على ترامب العمل بداية على رأب الصدع الحاد الذي نشأ جرّاء الحملة الانتخابية المضنية والسلبية داخل أمريكا بشكل عام. ومع أن الجمهوريين حققوا انتصاراً باهراً في الانتخابات، ليس على المستوى الرئاسي قط، وإنما بتحصيلهم أغلبية في مجلسيْ الكونجرس، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن ترامب سيتمكن من تنفيذ وعوده الانتخابية ووضع نظرته حول العلاقات مع بقية العالم موضع التنفيذ التلقائي. سيكون عليه أولاً، تحقيق المواءمة الضرورية مع المؤسسة الحزبية الجمهورية، بمكوناتها الرئيسة من القادة في الكونجرس. وقد يؤدي ذلك إلى تخفيف حدّة هذه النظرة قبل وعند التطبيق.

نظرة ترامب للعالم هجومية، ومنها انطلق خلال حملته الانتخابية لتحديد رؤيته لدور علاقة أمريكا مع العالم. هو يعتقد أن أمريكا أصبحت مستضعفة من قبل الآخرين الذين يقومون باستغلالها، ويرى ضرورة إعادة الاعتبار لعظمتها لإنهاء هذا الاستغلال، وتحقيق المصالح الأمريكية المتراجعة. ويمكن تلخيص نظرته هذه في أربعة مجالات ستشكل محاور سياسته الخارجية: الهجرة، التجارة، التحالفات التقليدية، ومحاربة الارهاب.

فيما يتعلق بموضوع الهجرة، يرى ترامب أن بلاده أُغرقت بالمهاجرين غير الشرعيين، خاصة من وعبر المكسيك. وقد أدى وجود الملايين من هؤلاء المهاجرين إلى تقليص مساحة العمل للأمريكيين، وارتفاع معدلات البطالة بينهم، وزيادة الضغط على الخدمات العامة المستغلّة من قبل المهاجرين الذين لا يساهمون بدعمها. لذلك، يريد ترامب اغلاق باب الهجرة غير الشرعية من خلال بناء جدار على الحدود مع المكسيك، وقد وعد بأن تدفع الأخيرة تكاليف هذا الجدارـ ستضع هذه الرؤية العلاقات الأمريكية مع الجارة الجنوبية في أزمة، علماً أن حجم التبادل التجاري مع المكسيك مرتفع، وميزانه يرجح لصالح أميركا التي من المتوقع أن تُواجَه بردّ فعل مكسيكي.

ويجدر أن لا يغيب عن البال في هذا السياق أيضاً أن لترامب موقف سلبي عام من الهجرة للولايات المتحدة واستيعاب اللاجئين فيها، خاصة وأنه يربط ما بين ذلك والارهاب داخل أمريكا. وقد وعد بمنع دخول مهاجرين ولاجئين، وتحديداً من المسلمين. ومع أنه من غير الواضح ماهية الوسائل والطرق التي سيتبعها لتحقيق ذلك، إلا أن من المتوقع أن ذلك سيؤدي إلى خلق توترات، ولو خافتة، مع بلدان وهيئات دولية.

أما بالنسبة للتجارة فمنطلق ترامب حِمائي، فهو يريد لأمريكا الاحتفاظ بوظائفها ومصانعها. ولذلك يقترح فرض ضرائب على البضائع العائدة الى البلاد من المصانع الأمريكية المهاجرة للخارج ( للمكسيك والصين وجنوب شرق آسيا). ليس هذا وحسب، بل يريد إعادة التفاوض حول اتفاقيات تجارية ماضية وسارية المفعول لتغيير ما يعتقد بأنه مجحف بحق بلاده، وخصوصاً مع المكسيك والصين. كما ويريد أن يضع ضوابط تمنع الصين من استغلال التحكم بعملتها لتحقيق الفائض في التبادل التجاري مع أميركا، والحدّ من الأفضلية الصينية في التجارة الدولية الناجمة عن هذا التحكم. هذا سيؤدي إلى إرباك الأسواق المالية، وبالتأكيد سُيدخل العلاقة مع الصين (كما والمكسيك) في أزمة قد تؤدي إلى حرب تجارية على الصعيد الدولي.

قد يكون أهم ما سيميّز السياسة الخارجية لإدارة ترامب،  إن وضع نظرته موضع التنفيذ، يتمثل بإعادة النظر في التحالفات الخارجية التقليدية التي يرى أنها ترهق بلاده مادياً،  وخصوصاً فيما يتعلق بالحفاظ على أمن العديد من الحلفاء، مثل اليابان وكوريا الجنوبية ودول الخليج العربي ودول أوروبا المشاركة في حلف الأطلسي. يريد ترامب أن تُسهم كل هذه الدول بحصة وافرة في منظومة الحفاظ على أمنها أمريكياً. ومن لا يرغب منها بذلك، عليه أن يحمي نفسه بنفسه، حتى لو أدى ذلك إلى تطوير هذه الدول، كاليابان وكوريا الجنوبية، للأسلحة النووية. هذه السياسة، أن طُبّقت، يمكن أن تؤدي الى تغيرات جوهرية في شكل التحالفات الدولية، ما يُمكن أن يُسرّع في تغيير خارطة النظام الدولي الحالي، ويؤدي إلى تسهيل بزوغ نظام جديد.

في هذا المجال، يجدر ايلاء نظرة ترامب لمستقبل العلاقة الأمريكية مع روسيا اهتماماً خاصاً. فهو، على عكس التوجه الأمريكي التقليدي، يحبّذ إحداث تقارب في هذه العلاقة. فإن حصل، سيكون لذلك آثار هامة  على صعيد العلاقات الدولية والنظام الدولي، خاصة وأن مثل هذا التقارب يمكن أن يضع ضوابط أمام امكانية تطوير العلاقة الروسية- الصينية، ما يحدّ من امكانية تشكيل تحالف قوي مضاد لأمريكا.

إن حصل التقارب الأمريكي- الروسي فسيؤدي إلى تغيّر في كيفية محاربة أميركا للإرهاب، وخاصة في المنطقة العربية، وبالتحديد في سوريا والعراق. فمثل هذا التقارب يمكن أن يؤدي إلى توسيع التدخل الروسي على الأرض، بمباركة أمريكية، لمواجهة تنظيم داعش. بالمقابل، سيؤدي ذلك إلى تخفيف الضغط عن النظام السوري، والدفع باتجاه تحقيق تسوية سياسية للصراع في سوريا. إن حصل ذلك، يمكن أن تتوتر العلاقات مع الدول الخليجية، وخاصة العربية السعودية، والتي من المتوقع أن تتصاعد أزمة علاقاتها مع أمريكا خلال فترة رئاسة ترامب.

وأخيراً، لا يتُوقع أن يؤدي وصول ترامب إلى سدّة الرئاسة إلى حدوث تغيّر جوهري في موضوع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. فالدعم التقليدي لإسرائيل سيتواصل ويتدعم. ولكون ادارة ترامب ستكون منهمكة في قضايا أكثر أهمية وإلحاحية لها على الصعيد الدولي، فإن مسألة التسوية السياسية للصراع لن تشهد انطلاقة حيوية، وخصوصاً في المستقبل المنظور. أكثر ما يمكن أن يحصل هو الدفع باتجاه إحياء مسار المفاوضات الرتيبة لإعادة وضع الصراع على النار الهادئة والمريحة لإسرائيل والعالم.