الهوية المعمارية في الثقافة العمرانية

الهوية المعمارية في الثقافة العمرانية

إن عمارة المجتمع هي الصورة التي تعكس بل تمثل التقدم. أود التأكيد على أن جزءا مركزياً من المشاكل التي تواجهه في الثقافة الإسلامية اليوم تتمثل في أن معظم النخب الحاكمه  في مجتمعنا قد مرت بعملية انفصال عن جذورها الثقافية، لقد قاد هذا الشرخ وانفصام الرؤية الثقافية، حيث يقترن التراث التاريخي والثقافي والديني والروحي بالرجعية والفقر، بينما تم استعارة هذه الصورة التي تمثل التقدم من مكان آخر ومن الغرب تحديداً. المشكلة التي تنشأ من استعارة هذه الصورة التي تمثل هذا التقدم  هي مشكلة قاسية جداً. وتخلق تحديا كبيرا للمعماريين إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الروابط الهامة بين العمارة والمجتمع.

إن الهوية الثقافية المتغيرة في المجتمع كما يرسمها الفلاسفة والفنانين والمعماريين تتحمل المسؤولية في المساعدة في توصيف تلك الصورة التي تمثل التقدم والتي ترسم من المجتمع  (أو نخبتة على الأقل). إن التعبير الفيزيائي الملموس عن ذلك المجتمع في معظم البلدان العربية اليوم كثيرا ما يقترن بمشهد الأفق في منهاتن ولا يترك الكثير من المجال لمقاربة حيث تكون أكثر احتراما للاستمرارية الثقافية وأكثر انسجاما مع بيئة المجتمع هذه.

إن الواجب الملقى على عاتق المعماريين والمخططين ليس سهلا حيث يجب إقناع الزبائن بالبدائل ومحاولة  إيجاد هوية معمارية محلية ذات علاقة ثقافية مناخيه بيئيه لهذا المجتمع. وهذا يبداء تدريجياً من 

المجتمع. وهذا يبداء تدريجياً من الطبقة الوسطى الدنيا ومن ثم الوسطى العليا ويتم ذلك عبر :_

تقدير الماضي :

 إن قراءة الماضي من خلال معالمه الفيزيائية الشاخصه لـه من الأهمية بمكان لمعرفة ملامح عمرانية هامة لأي مجتمع، والحفاظ على هذه المباني سواءً كانت تاريخية ذات بعد اثري أو غيره فالمعماري المحافظ على التراث يواجهه تحديا كبيرا في كيفية توظيف هذا المبنى أو ذك لملائمة العصر وهذا ما يدعم التشبث بالماضي وترسيخ أقدامه وذلك لاندفاعه للمستقبل  فقراءه الماضي لا تتم فقط بالحفاظ على هذه المبنى أو ذلك وإنما مفهوم الفراغ العمراني من حيث المقياس والنسب الهندسية وصورة الشارع وتفصيل الحجوم والعلاقة بين الكتل المصمتة والفراغات وفوق كل ذلك العلاقات المتبادلة بين العام والخاص.

فترميم هذا المبنى أو ذك أو إعادة توظيفه ليس من الضروري أي يكون حلا إذا ما اخذ التعامل مع الماضي كمبان مفردة دون قراءة النسيج العمراني المحيط بذلك المبنى.

وهنا يكمن التحدي الملقى على المعماريين لفك رموز الماضي، يعني هذا مميزات الهوية المحلية ذات الأهمية الكبيرة لامتلاك درجة رفيعة من المعرفة والمقدرة على قراءة المضمون الرمزي لهذا التراث لتوظيفه بأسلوب جديد لانتاج مباني لها علاقة بالحاضر والمستقبل وتحاول تأصيل هذه الرموز بلغة عصرية تلائم المجتمع.

فهم الحاضر :-

  إن التغيرات المتسارعة التي تؤثر على المجتمع الحالي المؤثرة بشكل أساسي على بيئته وتفكير المجتمع الحالي مع العلم ان المجتمع في كثير من الأحيان يفكر وينفي هذه المؤثرات وذلك من خلال إطلاق صفه الكمال على الماضي الذي لا يتواجد فيزيائية إلى في الأذهان كمقابل للحاضر الغير مقبول. إن عملية التحول في المجتمع سوءا كانت ديمقراطية أم تقنية أم اقتصادية أم ثقافية أم سياسية أم أيدلوجية هي مكونات معروفة لدينا من خلال ربطها معا لأنها تؤثر فينا شئناً أم أبينا . دعوني أفسر هذه العملية ككل.

كانت المدينة في العالم الإسلامي باستمرار هي التعبير الثقافي للطبقة الوسطى البرجوازية اليوم – تلك المدينة هي ، وبلا مهرب جزء من القرية الكوني وقد نشأ ألان خلاف ناتج عن البرجوازية المسلمة- برجوازية مدعومة في غالب الأحيان من أصحاب القرار وأجهزة الدولة – بالإضافة إلى دعمها الخارجي تجاه ألصوره التي تمثل "التقدم".  هذه الصورة التي كبرت وترعرعت في فترة الاستعمار والأمثلة المعمارية الباقية إلى يومنا هذا شاهد على هذا الشرخ والفصام.

إن التفاعل بين الجديد والقديم سواءً  في التخطيط العمراني أو التصميم المعماري هو تفاعل غير مدروس بشكل كافي وبالتالي فان الشرخ في النسيج العمراني هو نتيجة حتمية وواضحة حولنا في البلدان الإسلامية المتخلفة. هذا التفاعل مبنى على هشاشة واضحة؛ شوارع كبيرة أبنية عالية صناعة وإنتاج عالي الثقانة. مواصلات ، سيارات، وثروة استعراضية، كل ذلك يمثل "الجديد" بشكل أو بآخر النسيج العمراني العضوي التقليدي بأنماط من شوارع ضيقة وأبنية صغيرة وورشات حرفية وبيئة المشاة الموجودة حيث يمثل " القديم" .

يضاف إلى هذا كله إن التأثير المنتظم لحركة الحداثة في التفكير المعماري خلال القرن العشرين قد ساعد على تقوية نزعة البيئة نحو العالمية أو ما يدعي " بورتوتيب" ومن ثم ما يدعي بالعولمة سوءاً كانت الاقتصادية المالية المدعومة من نمو الاتصالات والمواصلات منذ الحرب العالمية الثانية.

إلا أن هناك بعض الأمثلة وبعض المدارس المعمارية كمدرسة بغداد في العراق أو تجربة حسن فتحي في مصر هي الأمثلة الواضحة التي ربطت نفسها بالمحلية بالحركات المعمارية العالمية (الغربية) لدرجة رفض أو تهميش قواه الحيوية والفاعلة وما تجربة حسن فتحي إلى دليل واضح على ذلك.

إن الفرق في طوفان التكنولوجيا الغربية والمستوردات الثقافية المختلفة ما هو إلاُ جزء من المعاناة التي يعانيها المعماري المسلم من اجل إيجاد بيئة ثقافية تقدم له تصوراً مقبولاً عن الهوية بما يتناسب مع ظروف المحلية الإقليمية الوطنية. فالاصالة كما أراها ليست فقط بعض المفاهيم والعناصر في العمارة المحلية بل هي " الوحدة مع التنوع" كما جذرتها العمارة الإسلامية فالاصالة عند المغربي تختلف عن الاصالة عند التركي والاصالة عند الصيني المسلم تختلف عنها عن الاصالة عند الفلسطيني المسلم وهكذا دواليك؛ إلا أن هناك خيطاً رفيعا من القواسم المشتركة لطبيعة المسلم ذاته هذا هو جزء من العبقرية الخلاقة التي تحكم بها الثقافة الإسلامية والتي كانت "الوحدة مع التنوع" “Variety with Unity”  سمتها المميزة على الدوام. فالبيت البغدادي مثلا يتفق مع البيت الدمشقي التقليدي في كثير من العناصر إلا  أن الاختلاف موجود ولو في عناصر بسيطة نسبيا، وهذه هي الوحدة مع التنوع التي نفتقر إليها اليوم ويجذرعلى المعماري المعاصر أن يعبر عن المحلية بطرق جديدة ومعاصرة. والنسخ الوضيع عن الماضي  ليس هو الحل والهروب إلى الماضي يجب أن يدرك التغيرات المعاصرة من تكنولوجيا وغيرها من المعايير ويجب أن يدرك المقياس التكنولوجي الذي يربط بين البيئة العمرانية المبنية والبيئة المراد بناؤها. ويجب على أؤلائك الذين يحاولون سوف نذكرهم بسرعة أبعاد التكنولوجيا الحديثة وتداعياتها بأن طريق التميز والنجاح يتطلب الخلق والإبداع.

النظر إلى المستقبل:

المستقبل بعيد المدى في الوقت الذي يستطيع فيه البناءون المجهولون للحدائق المعلقة أو الاهرامات هناك صفة شبه سرمدية وأزلية لمنشأتهم المبنية فانه يظل ممكنا القول إن كل عمل من أعمال المعماريين هو عمل ولو بشكل استثنائي ذو عمر مديد "لسؤ الحظ" أما مواد البناء والإنشاء في عصرنا هذا يمكنها الدوام عقود بل قرون طويلة سواءْ كان هذا جيد أم سيء والنتاج المعماري هي محسوسة تبقى حسب المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والاهم من ذلك النزعات المسلحة. مع ذلك لم يستجب معماريو العصر على مقياس كبير لهذا الواقع إما بتصميم مباني مؤقتة وأعني بذلك. مباني مصممة لفترة زمنية محددة مع الأخذ بالحسبان وبشكل كامل سوف يتم إعادة بنائها أو تغييرها بشكل ملموس خلال عدة عقود أو تصميم داخلي سهل التعامل معه مع تغيير وظيفته المستقبلية وهذا ما يحصل الآن في المباني المكتبية والتجارية فقط بدلا من أن نبني مباني أزلية.

على المعماريين إتقان وامتلاك مجموعة كبيرة من المهارات وطريقة تطبيقها. وهي اكبر بكثير مما يحضرهم التعليم المعماري حاليا حيث القدرة على فك رموز العمارة القديمة بما يمكنهم فهم كيف نظر الاقدمين لماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم مسلحين بمعرفتهم القائمة على المقارنة ويجب معرفة الحاضر وإمكانياته وتياراته وهذا بحد ذاته مربك ومحير فبينما يدوم بقاء المبنى سرعان ما تزول مدرسته المعمارية وربما خلال سنوات محدودة ومن هنا يجب على المعماريين ليس فقط التفكير بمبانيهم الفردية فقط ولكن بعلاقتها مع المجتمع والمحيط الأكبر. ويجب الجمع بين كل ما سبق وتفعيل منتجاتهم إلى طوال مدة وجودها "الديمومة والاستمرارية" بجدارة كما فعلت المباني العظيمة في الماضي في مرحلة الامتياز والبراعة  وحسب القول المثالي "انه ليس لعصر وإنما لكل العصور".

 

د.م. معين قاسم جوابرة

جامعة بير زيت / كلية الهندسة والتكنولوجيا

قسم الهندسة المعمارية