في الحاجة لمؤسسة مركزية لرعاية ودعم البحث العلمي في فلسطين

ليس خافياً الأهمية التي يمثلها البحث العلمي كقوة دافعة لتطور العلم والمعرفة، ودور ذلك بالتالي في إعادة تشكيل الوعي والسلوك البشري من خلال الإسهامات الجمه في المجالات الفكريه والإجتماعيه والإقتصاديه والسياسيه وغيرها. لقد أخذ التقدم العلمي المعاصر ونشاطات البحث والتطوير منحا تقنياً وأضحت المنتوجات التقنيه محركا أساسيا للإقتصاد. من جانب آخر فإن هذه المنتوجات تعتبر مركباً تبحر به هويات ثقافية عابرة للحدود بشكل يعكس التلازم بين الأوجه الطبيعية والتطبيقية للعلم من جهة والأوجه الثقافية والإنسانية من جهة أخرى، ويؤكد على دور البحث العلمي بمعناه الشمولي كأداة أصيلة في جسر الهوة بين بريق الفكرة وصيرورة المنتوج المادي، وفي ذات الوقت تهذيب الجموح التقني وتأطيره في بوتقة مستساغة إنسانياً وايكولوجياً. في الجامعة، البحث العلمي ليس ترفاً يسهل النأي عنه أو هواية تمارس في أوقات الفراغ، إنه مقوم أساسي لا تستقيم الشخصية الأكاديمية إلا به، ذلك أن الجامعة بحكم دورها الوظيفي ليست فقط وعاءً يستقى منه العلم والمعرفة بل هي أيضاً منتج نشط لهما من خلال البحث العلمي والنتاج النظري والتطبيقي. والبحث العلمي هو أيضاً وسيلة فاعلة جداً في العملية التعليمية من حيث تسليح الطلبة بالمهارات العملية وتطوير المقاربات النقدية والتحليلية لديهم، وتعزيز الثقة بالنفس والقدرة على صنع القرار. في ذات الوقت، وحتى لا يستشف بأن الجامعة هي بمثابة ماكينة لإنتاج الباحثين، يجدر القول بأن الشخصية البحثية هي نتاج لثقافة تربوية تعليمية مبنية على الشغف للتعلم وحرية العقل والوجدان، تبدأ برعاية مواظبة للفرد مع تفتح مفاتيح وعيه وتنمو بنمو ذلك الوعي عبر مراحل التربية والتعليم المتتالية، حتى إذا ما وصل ذلك الفرد إلى الجامعة وجد فيها حاضنة رؤوماً لصقل المواهب وتتويجها بالإبداع والإنتاج. في ضوء هذا الفهم الرحب للبحث العلمي فإن ممارسة الشخصيه البحثيه لدورها الإبداعي داخل الجامعة تقتضي بالإضافة إلى التسلح بالمهارات المطلوبة، إيجاد مناخ تشيع فيه حرية الفكر وبنفس القدر تتجلى فيه القابليه للنقد وتحمل مسؤولية الأخطاء. كذلك فإن السمات المتبلورة لتلك الشخصية يبرز منها الأمانه في تنفيذ البحث وفي تدوين نتائجه، وبذات الدرجه الأمانه في الإقتباس ومراعاة حقوق الملكيه الفكريه والمحاذره من تلاقي المصالح. ونظراً للمشاكل البيئية المتنامية فلقد أصبح التمتع بالحس البيئي سمة ملازمة للبحث العلمي، وبخاصة التقني منه وما يلتقي مع ذلك من أدبيات وإنسانيات. مما سبق نستطيع القول بأن بلورة الشخصية البحثية وما يجب أن تضطلع به من دور ليس مجرد نشاط يستوجب وجود بنية تحتية من أدوات وكتب ليتعامل معها بعض الأفراد في جامعة ما أو مركز بحثي، بل هو نتاج لعملية طويلة الأمد تبدأ مبكراً منذ الطفولة وتتوج ثمارها على مسرح الجامعة، وهو بالتالي ليس بالمهمة التي تناط بالجامعة وحدها، مع الأخذ بعين الإعتبار الدور المحوري الذي يقع على كاهل الجامعة. إنه مهمة عامة يقف على قمة الهرم فيها الجهة الرسمية التي تلتقي لديها خيوط المسؤولية التربوية والتعليمية وتشترك فيها الكثير من المؤسسات العامة والخاصة في المجتمع. وهذا يفرض بالتالي مسؤوليات على تلك الجهات من نواحي التخطيط والتنفيذ سعياً لوضع أمثلي يخدم مصالح الجهات المختلفة ويكون له انعكاسات ايجابية على الحيز المجتمعي عموماً. بالنظر للمعطيات المتوفرة عبر موقع SCIMAGOJR.COM فإن فلسطين تحتل المرتبة رقم 110 من بين 238 بلدا من ناحية عدد الأبحاث المنشورة، والمرتبة رقم 173 من ناحية عدد الإقتباسات للمقالة الواحدة. وهذا إن دلل على وجود بعض النشاط البحثي إلا أنه يشير إلى تواضع شديد في الأثر الذي يتركه هذا النشاط. وعلى الرغم من تعقيدات الوضع بشكل عام في فلسطين إلا أن ذلك لا يجب أن يسوغ اجترار العجز. فمع الإدراك بأن الطريق شاق وأن هنالك الكثير من الخبز الذي يجب أكله قبل الحديث عن بحث علمي مؤثر في فلسطين إلا أن التذرع بطغيان الظرف لن يبني أفراناً. من هنا فإن وجود جسم مركزي لرعاية البحث والتطوير في فلسطين أمر لا مفر منه، سيما مع محدودية البنى التحتية والتحديات الإقتصادية الجمة التي تواجهها الجامعات المحلية. واتساقاً مع ذلك، فإن استحداث مجلس البحث العلمي الفلسطيني من قبل وزارة التعليم العالي كان خطوة هامة في هذا الإتجاه، وهو جسم، على ما أعتقد ينبغي المحافظة على وجوده وتطوير أدائه وتنظيم هيكليته سعيا لجعله مؤسسة تتمتع بالاستقلالية الإدارية والمالية، كي يتمكن من الإشراف على دعم وتطوير البحث العلمي والتقني في الجامعات ومراكز البحث المحلية من خلال جملة من الأهداف التي ينبغي تحديدها بسقف متدرج ينطلق من حقيقة أن البحث العلمي مطلوب لذاته في المرحلة الأولى. تلك هي مرحلة التبلور والإنتشار الأفقي التي تظهر نتائجها فيما بعد، وهي من ناحية صعوبة تلمس تأثيرها المباشر تشبه نشاط البذور تحت التربة في المراحل المبكرة للزراعة. هذه المرحلة يمكن إعتبارها ممراً إجبارياً هدفه تكريس البحث العلمي كمتطلب مهني وتعليمي في الجامعات، ليتم البناء فيما بعد على الإنجاز سعياً لربط البحث في الجامعات باحتياجات المجتمع بقطاعاته المختلفة، على طريق بناء اقتصاد المعرفة. في هذا الإطار يمكن استلهام تجارب مماثلة في الدول المجاورة ولربما الإستفادة من خبرتها. ولعل في التجربة التي مرت بها تركيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة من خلال مؤسسة العلوم والتكنولوجيا التركية ما يمكن الإستئناس به. تلك التجربة التي ساهمت في نقل البلاد نقلة نوعية على صعيد البحث والإنتاج العلمي والتطوير الصناعي والتقني خلال ثلاثة عقود، عن طريق اتباع سياسة ممنهجة لتحفيز وتمويل البحث العلمي ومكافأته في الجامعات والمؤسسات بشكل أدى إلى أن يرتفع عدد الأبحاث العلمية المنشورة سنوياً من تركيا من ثلاثة آلاف في أوائل الثمانينيات إلى ما يزيد عن خمس وثلاثين ألفاً حالياً، وهو رقم يضاهي ما ينشر من كافة الدول العربية حسب قواعد المعلومات ذات الصلة. كذلك فقد تم القيام بخطوات وتسهيلات متعددة لفتح مجالات التعاون بين قطاعي الأكاديميا والصناعة من خلال استراتيجيات متنوعة من بينها تأسيس مراكز التميز والحاضنات التقنية والتي تتضمن ايجاد حيز مكاني داخل الجامعات مفتوح للشركات والمؤسسات من أجل القيام بنشاطات البحث والتطوير مستفيدة من مجموعة من الحوافز والإعفاءات الضريبية ومن الخبرات البحثية المتوفرة داخل الحرم الجامعي. كل ذلك ما كان ليتم لولا الرعاية التي وفرتها مؤسسة التعليم العالي والمؤسسات الأخرى ذات العلاقة. وفي المجمل، وقياساً على تجارب مماثلة، فإن مسؤوليات وصلاحيات مجلس البحث العلمي أو أي جسم آخر من الممكن أن تناط به مهمة رعاية وتطوير البحث العلمي في فلسطين ينبغي أن يتم صياغتها بشكل متناسب مع محددات الوضع دون إسراف في التفاؤل ولكن أيضاً دون تقاعس. ولعل من الممكن أن تتسع هذه المسؤوليات لما يلي: تحديد أولويات البحث العلمي والتقني في ضوء تحديات الواقع المحلي، والحرص على دعم مشاريع في هذا الإطار دون قصر الدعم على ذلك. دعم وتسهيل التوجهات التكاملية والتشاركية بين الجامعات المحلية على صعيدي البحث والتعليم. المساهمة في تطوير العلاقات بين قطاع الجامعات وقطاع الصناعة عن طريق دعم المشاريع التجسيرية والتدريبية، وتشجيع إنشاء حاضنات صناعية. اكتشاف وتشجيع المواهب العلمية من خلال تنظيم مسابقات للإبتكار العلمي، وأولمبياد محلي للمتفوقين من طلبة المدارس في مجالات مختلفة, وما شابه. مكافأة التميز العلمي من خلال تقديم جوائز سنوية لأكاديميين وباحثين متميزين، وتقديم المكافئات بشكل مستمر للنشر العلمي في مجلات ودوريات محكمة ومرموقة. تعزيز فرص ومجالات التعاون والتبادل العلمي والتكنولوجي بين المؤسسات المحلية والدولية. إصدار مجلات علمية شعبية للدعاية والإحتفاء بالثقافة والمعرفة العلمية على المستوى المجتمعي. ما من شك في أن ما سلف يستوجب تخصيص ميزانيات ليست بالقليلة، ولكن أيضاً يجب النظر للموضوع كاستثمار استراتيجي تقتضيه مواكبة العصر وما ينطوي عليه ذلك من مصلحة عليا.أخيراً وليس آخراً، فإنه ينبغي التأكيد على أن القطاع الخاص في فلسطين، والذي يعتبر شريكاً أساسياً في التنمية الوطنية، يتحمل مسؤولية جمة في دعم البحث العلمي في الجامعات سيما وأن المردود المباشر هو الإرتقاء بنوعية الخريجين والذين يتم استخدام جزء هام منهم في هذا القطاع. كذلك فإن فقه الواقع يقتضي عدم استعجال مردود الدعم لنشاطات البحث والتطوير خلال مرحلتها الأولى، فسقف التوقعات يجب تحديده بشكل واقعي حتى لا يورث خيبة الأمل على المدى القصير. أ.د. طلال شهوانعميد الدراسات العليا – جامعة بيرزيت nbsp;