"ندوات الحرية" تناقش اليسار بين الحرية والتحرر

ضمن الفعاليات المرافقة لمساق «دفاتر السجن: الحركة الفلسطينية الأسيرة»، الذي تطرحه دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية للعام الثالث على التوالي، تواصلت السلسلة الثالثة من «ندوات الحرية» يوم الخميس الموافق 26 تشرين الثاني 2017 بالمحاضرة الثانية التي استضافت الأسير المحرر مؤيد عبد الصمد (الشيص)،  ابن بلدة عنبتا-طولكرم، والذي الذي قضى في سجون الاحتلال الصهيوني قرابة ٢٥ عاماً، وكانت بعنوان: «اليسار بين الحرية والتحرر: الحركة الفلسطينية الأسيرة وتجارب النضال العالمي».

وقد أشاد عبد الصمد بكافة الجهود الجماهيرية وأثرها في تعزيز صمود الحركة الأسيرة سواء بالكتابة، أو الاحتجاج، أو تجنيد الدعم العالمي، أو تخليد التجربة النضالية… ذلك أنه على الرغم من الغنى والريادية والعمق الذي امتازت به تجربة هذه الحركة، التي تعتبر جزءاً صميمياً من حركة التحرر الوطني الفلسطيني، إلا إنها لم تدون كما ينبغي. كما أشار عبد الصمد إلى أن أهم ما يميز الحركة الفلسطينية الأسيرة هو امتلاك أفرادها للوقت، زمن الأسر، الذي مكَّنهم من مراقبة الواقع وتتبعه وتحليله والمساهمة في تشكيله وتغييره حتى من وراء القضبان، وهو ما لم تمتلكه الحركة الوطنية في الخارج لانخراطها اللافت في تجربة الكفاح المسلح. وفي إشارة لافتة، قال عبد الصمد إن تجربة اليسار الفلسطيني لا تقتصر على الحركات اليسارية الفلسطينية، ذلك أنه يعتبر أن منظمة التحرير الفلسطينية بكافة فصائلها، وكافة فصائل حركة التحرر الوطني الفلسطيني الأخرى، كانت يساراً من حيث ما تقوم به من مهمة تحررية ومقاومة للاستعمار سواء في البعد الوطني أو القومي أو الأممي، وقد عزز من ذلك تزامن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، في منتصف عقد الستينيات، مع صعود حركات اليسار العالمي وثورات الشباب في العالم، وبخاصة في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا، بالإضافة إلى بعض حركات اليسار الغربية. 

أما عن علاقة اليسار الفلسطيني باليسار العالمي، فقد أشار عبد الصمد إلى مجموعة من العوامل والمؤثرات التي حكمت هذه العلاقة، ومنها: (1) على الرغم من أسبقية الحق الفلسطيني على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن المنظمة بدأت، بالتزامن مع مشروعها الكفاحي، مشروعاً وطنياً لتثبيت الذاكرة الفلسطينية، وتدشين الهوية الوطنية بعد العديد من محاولات الطمس والإلغاء، حيث استثمرت المنظمة التناقض القائم بين قوى الامبرالية العالمية وقوى الاشتراكية، وبخاصة الصين، حيث كان الشهيد أبو جهاد-خليل الوزير أحد روَّاد هذا التواصل؛ (2) القوة الهائلة لدى العدو الصهيوني كانت بحاجة إلى جهد على المستوى العالمي من حيث تجنيد الدعم السياسي والمالي والعسكري، وعلى المستوى الفكري من حيث استلهام التجارب النضالية والثورية في العالم، وقد كانت تجربة فيتنام من أهم التجارب الملهمة للثورة الفلسطينية وبخاصة المنهجيات الحربية والتجارب القتالية التي  تغاير تجربة الجيوش العربية في مواجهة بعضها لإسرائيل، وذلك نحو حرب الغوار، وحرب العصابات، وحرب الشوارع؛ (3) كان على رأس أولويات المنهج الفكري لليسار الفلسطيني بخاصة، وللثورة الفلسطينية عموماً، تحديد معسكر الصديق ومعسكر العدو، وقد كان من تبعات ذلك البحث عن مظلة فكرية تحدد تفاصيل المنهج الثوري في العمل، حيث دخلت كل من: الجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية، والحزب الشيوعي الفلسطيني، وجبهات التحرير في علاقات منظمة مع أطر قومية ويسارية عالمية، ولم يقتصر ذلك على الفصائل اليسارية في حركة التحرر الوطني الفلسطيني، بل شمل حركة فتح ولاحقاً حركتي حماس والجهاد الإسلامي.

وفي تشخيصه لأزمة اليسار الفلسطيني، أفاد عبد الصمد أن بعض النقد لليسار اليوم هو في محله تماماً، غير أنه أشار أن أزمة اليسار هي أزمة حركة وطنية برمتها، وأنه ينبغي خلال عملية النقد أن لا نحاكم لا اليسار ولا الحركة الوطنية من خلال واقع التجربة الحالية، ذلك أن اليسار الفلسطيني خاض النضال، وشكَّل تجربته الخاصة، وكان يعاني من نفس أزمته اليوم: تشتت اليسار، وتأرجح الأولويات ما بين الأممي والوطني، والنظرية والممارسة، إذ «كنا منظرين حتى النهاية أو ممارسين حتى النهاية دون أفق نظري، ما نتج عنه عدم قدرة اليسار على تجديد ذاته، وعمل المراجعات اللازمة، وتحديث الرؤى والاستفادة منها في الممارسة». 

ما جرى تشخيصه آنفاً من انشغال حركة التحرر الوطني الفلسطيني التام بتجربة الكفاح المسلح حال دون تطوير تجربة فكرية متكاملة، ودون التركيز على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية كذلك، عوَّضت عنه الحركة الفلسطينية الأسيرة التي كان الوقت الطويل وسنوات من الصبر والانتظار للتأمل في التجارب الثورية في العالم، سواء في أوروبا أو أمريكا اللاتينية أو أفريقيا أو آسيا، ودراستها لتزويد اليسار الفلسطيني بخاصة والحركة الوطنية بعامة بمادة تثقيفية للمقاتلين الفعليين، أو المقاتلين المحتملين، الذين هم الوقود الحقيقي لأية ثورة.  

فبعد الركيزة التنظيمة، وحفظ الذات وتحصينها مقابل ظلم السجان الصهيوني وجبروته، كانت الأولوية للبناء الفكري والثقافي من خلال الجلسات التنظيمية التي وصلت إلى ثلاث جلسات يومية في التاريخ والاقتصاد والفلسفة، وغيرها. وقد ساعد في ذلك وجود شخصيات وطنية قيادية، نحو: عمر القاسم، وتيسير قبعة، وفيصل الحسيني (صاحب التجربة اليسارية القومية)، كانت من قادة مجموعات «الدوريات» الذين كان لهم المنظور اليساري الناضج، هذا بالإضافة إلى مناضلين لامعين، نحو: يعقوب دواني، ويعقوب عودة، وأبو علي شاهين، والشيخ محمد أبو طير، ورولا أبو دحو، ولاحقاً جاء القائد الشهيد فتحي الشقاقي (الذي اسثمر الأنظمة الداخلية والكتابات التنظيمة للعديد من الحركات الفلسطينية في تأسيسه لحركة الجهاد الإسلامي). وعلى الرغم من شح الكتب والمؤلفات الفلسفية، والماركسية منها بخاصة، كان الأسرى يكتبون الكراسات كمواد للجلسات الثقافية، إلى أن استطاع نضال الحركة الأسيرة تأمين الكتب، وبخاصة منشورات دار التقدم السوفياتية. 

وقد أشار عبد الصمد، أنه ورفاقه وإخوانه الأسرى درسوا كتباً «من الجلدة إلى الجلدة» على أيدي رفاق كانوا يحفظونها عن ظهر قلب، رغم تراجع الممارسة بالقياس إلى ذلك، وذلك نحو: كتابات لينين «ما العمل: المسائل الملحة لحركتنا»، و«مرض اليسار الطفولي في الشيوعية»… وأكَّد: «كنا رومانسيين رومانسية قاتلة،  وكنا نركز على النصوص دون تجربة في الممارسة. كان لهذا سلبية لكن كنا نوسع آفاقنا». كما أفاد عبد الصمد أن تقوية الجبهة الداخلية وبناء الذات لم يقتصر على الكتب الفكرية، بل اشتمل، أيضاً، على الأدب، حيث قرأ الأسرى بتواتر روايات، نحو: رواية «الرعب والجرأة»  (لآلكسندر بك)، التي كان الثوري يقرأها كل سنة مرة، ورواية «الأم» (لمكسيم غوركي)، و«كيف سقينا الفولاذ» (لنيكولاي أوستروفسكي)… أما التركيز على الكتابات العربية والفلسطينية فقد كان نادراً في بداية الأمر. 

أما على صعيد التجارب الثورية، فقد قال عبد الصمد، إنه «في السبعينيات، وبعد استشهاد جيفارا في 9 تشرين الأول 1967،، ونضج التجربة الجيفارية ودخولها حيز الفعل في خارطة النضال الأممي أصبحنا نركز أكثر على تجارب تشيلي، وكوبا، وغينيا بيساو،  والسيراماستا، والأرغواي، والنجم المضيء، والفهود السود، والبيرو، اليسار الفرنسي…كانت كلها تجارب تدرس إجبارياً للأعضاء. وكيف انتصر الفيت كونغ (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام)، كنا نكتبها وندرسها.. حيث أدخلت كتب عن التجارب النضالية العالمية وتنظيرات الماوية وحرب العصابات. أصبحنا نحفظ جغرافيات معارك الشعوب الثائرة في العالم وفي أمريكا اللاتينية ونحفظ أسماء ثوار العالم أكثر من مناضلينا ومناضلاتنا الفلسطينيين إلى أن بدأنا نعود إلى تجاربنا وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والانتفاضة الأولى ١٩٨٧». وقد أردف عبد الصمد، أن الحركة الفلسطينية الأسيرة، وبخاصة فصائل اليسار،  صات تبحث عن تجارب  ثورية مقاومة عربية وإقليمية، مثل تجربة حزب الله والتجارب العربية الأخرى في الجزائر وغيرها رغم ندرة ما وصل عنها. لكن من خلال أسرى حزب الله والحزب الشيوعي اللبناني الذين كان منهم عشرات الأسرى، وتجارب الأكراد والبشمركا (الذين يواجهون الموت)» وكان ذلك في استطراد حول إشارة عبد الصمد إلى تدرُّبه شخصياً مع البشمركا في سوريا، وخاصة PKK حزب العمال الكردستاني. وقد أفاد عبد الصمد إلى أن تعبير «إضراب تركي» أي غاية في العناد والصمود حتى النهاية، حتى الموت، جاء من خلال هذا الاحتكاك بمناضلي هذه الحركات، وأخرى أوروبية، مثل تجربة بوبي ساندز (الذي استشهد خلال الإضراب عن الطعام في سجن إنجليزي في 5 أيار 1981) وكان مفتاحاً للتجربة الثورية الأيرليندية، التي يتلو الإضراب عن الطعام فيها فيها إضراب عن الماء.

وقد أردف عبد الصمد، أن «واقعنا الفلسطيني لم يستطع إنتاج فكر جديد إلا بتجارب متواضعة… بعد استشهاد مثقفين كبار مثل مهدي عامل وماجد أبو شرار وغسان كنفاني وغيرهم، ذلك، باستثناء تجربة المناضل أحمد قطامش التي تأثر فيها بغرامشي وتجربة ناظم حكمت، مثل: «فلسفة المواجهة وراء القضبان»؛ «في التنظيم الثوري السري»؛ «لن ألبس طربوشكم»، «مداخل لصياغة البديل»، «إشكاليات الدولة»؛ «الدولة الواحدة الديمقراطية»، وغيرها).  إذ كان كل ما كتب أحمد قطامش كان جلسات فكرية أعطها داخل السجن قبل أن تكون كتباً».

وقد اشتمل برنامج التثقيف والإعداد للحركة الأسيرة، غير البعد النظري الذي اشتمل على اللينينات والماركسيات، من خلال العقود الثلاثة من السبعينيات إلى التسعينيات، تثقيف الأعضاء تنظيمياً والاستفادة من التجارب العالمية في حرب الغوار والعمل السري وحرب العصابات وكيف قاتلوا  وكيف يمكن امتلاك هذه الأدوات حتى داخل الأسر. وقد كان ذلك من خلال «برنامج المناضل المغادر» لمن شارفوا على إنهاء محكومياتهم في سجون العدو.

أما على صعيد الفعاليات الفكرية ذات الطابع الثوري الأممي، فقد أشار عبد الصمد إلى أن الحركة الأسيرة، وبتنظيم من فصائل اليسار الفلسطيني، كانت تشارك في إحياء ذكرى أيام عالمية، نحو: «يوم العمال» في 1  أيار من كل عام تخليداً لثورة االعمال في شيكاغو، ويوم المرأة العالمي في 8 آذار من كل عام، واستشهاد جيفارا في 9 تشرين الأول من كل عام، وذلك تعبيراً عن الارتباط المصيري والفكري مع هذه الحركات، التي اعتبرها الفلسطينيون قضيتهم هم.

وفي خلاصة محاضرته، قال عبد الصمد «إن الحركات السياسية، ومن ضمنها كافة فصائل اليسار، هي أودوات عمل سياسي من أجل التحرر الذي هو الغاية الكبرى.  وأن الحركة ومن بعدها الحزب هي كائن حي، عضوي، يولد ويحيا ويموت، ثم يبعث من جديد ويخرج من رحمه وسائل أخرى. لكن  اليسار، كرؤيا ومنهج وخط مقام، لا أحد يستطيع إلغاءه، إذ كان لليسار تجربته المتميزة والخاصة… ومع أن اليسار، والفصائل الأخرى على خارطة النضال لم تستطع كذلك تحقيق ما نصبو إليه من تحرير للأسف، لكننا لا زلنا نحاول. كل الفصائل تردَّت حينا وتقدَّمت حيناً في التحرر من الاستعمار الصهيوني وإقامة الدولة وتحقيق العودة وتقرير المصير… لكن الغاية لا تزال هي هي، والنضال من أجل تحقيقها سيظل مستمراً».