منتهى انجاص: باحثة من جامعة بيرزيت تسير نحو درجة "البروفيسور" في الكيمياء التطبيقية

إنجازات متعددة وجوائز كثيرة دفعت صحافيّاً ألمانيّاً لأن يكتب عن الباحثة الفلسطينية، خريجة جامعة بيرزيت، منتهى انجاص، بأنها تلك "المرأة القوية من فلسطين"، لتكون عنواناً لمادة في إحدى أشهر الصحف في ألمانيا في شهر تموز الماضي.  

"هو أحد الخيارين، إما أن أحزم أغراضي وأعود أدراجي، وإما أن أمضي قدماً وأُنهي دراستي، وزوجي وولدي بعيدان عني". كانت هذه هي الأفكار التي تراود عقل منتهى انجاص عندما وصلت ألمانيا دون زوجها وولدها، وقبل أن يدفعها الشعف المعرفي والطموح إلى أن تصبح إحدى أبرز الباحثات والعالمات في مجال الكيمياء التطبيقية، فقد مكنتها نتائج أبحاثها من أن تحصد جوائز وزمالات بحثية، كإحدى النساء العربيات القليلات، وحتى أولاهن، في هذا المجال.

تميزت أبحاثها التي تهدف إلى تطوير مركبات كيميائية جديدة من جزيئات أكاسيد العناصر بالتركيز على مركبات أكاسيد الفاناديوم، ودراسة كفاءة هذه المواد على تخزين الطاقة الكهربائية في مجال بطاريات الليثيوم المستخدمة حاليّاً في الأجهزة الإلكترونية والمَركبات الكهربائية. وحاليّاً، تركز انجاص في أبحاثها على بطاريات ما بعد الليثيوم، كالصوديوم والمغنيسيوم، لمحدودية إنتاج بطاريات الليثيوم في الأعوام القليلة المقبلة بسبب استنفاد العناصر الأساسية لهذه المواد. 

رحلة صعبة

بعد إنهائها الثانوية العامة، حاولت انجاص مراراً التقدم إلى جامعات ألمانية لدراسة درجة البكالوريوس، ولكنها لم تنجح في البداية، وكانت جامعة بيرزيت المكان الذي بدأت فيه أولى خطوات نجاحها وتميزها، فإثر عدم قبولها في كلية الطب في جامعة القدس، وعدم حصولها على فيزا للدراسة في جامعة برلين الألمانية، كانت بيرزيت هي أفضل خيار، حيث تقول: "الآن أنا وحدي، بيرزيت احتضنتني، دخلت كلية العلوم وأنا حامل بطفلي الأول، أنهيت الفصل الأول بمعدل ٩٣، وفي أحضان يا بيرزيت استعدت تميزي وتفوقي. تخصصت في مجال الكيمياء وأحببت تخصصي كثيراً، أبدعت في كل المواد".

أنهت انجاص درجة البكالوريوس بتقدير امتياز، وهي تطمح لإكمال دراستها العليا، فتقدمت لمنحة الداد DAAD الألمانية، ولكن لم تحصل على قبول، فالتحقت ببرنامج ماجستير الكيمياء التطبيقية في جامعة بيرزيت، وعملت مساعدة بحث وتدريس في نفس الوقت. 

خلال رحلتها كمساعدة بحث وتدريس وطالبة ماجستير في جامعة بيرزيت، تم قبولها في جامعة أولم. ومن هنا بدأت مسيرتها نحو النجاح والتميز. "وصلتني أوراق على عنوان دائرة الكيمياء في جامعة بيرزيت من جامعة ألمانية، فتحت المغلف، إذا بها أوراق قبولي لبرنامج ماجستير المواد المتقدمة من جامعة أولم، ها هي أولم تلقي بأوراقها أمامي لألتحق بها، من هنا بدأت رحلتي تجاه أولم، لو كان طموحي هو بلوغ درجة الماجستير لما تركتك قط بيرزيت، ولكن أنا أطمح لما بعد ذلك".

دفع شغف وطموح انجاص للتقدم لمنحة الداد مرة أخرى، والالتحاق ببرنامج الماجستير في أولم دون تأخر، وبعد حصولها على ردود إيجابية ومحفزة من إدارة المنحة، قررت المضي قدماً. كانت فكرة الدراسة قبل الحصول على المنحة صعبة، فهي أم لطفل وحامل بآخر، وعليها أن تسافر وحدها، إلى أن تحصل على الرد الإيجابي من المنحة. 

وعلى الرغم من الإجراءات المعقدة للحصول على المنحة، استطاعت السفر، مع بقاء زوجها وطفلها في فلسطين. تقول عن ذلك: "غادرت فلسطين في شهر أكتوبر، والقرار النهائي لمنحة الداد سيصدر في شهر فبراير، وفي شهر أبريل، سيتمكن زوجي وولدي من الانضمام إلي. خرجت من بلدي ودموعي لا تنقطع، فوجع الفراق جدّاً مؤلم".

بدأت رحلتها في جامعة أولم، وهي تنتظر رد المنحة وحضور عائلتها لألمانيا. لم يكن رد الداد لانجاص إيجابيّاً في البداية، ولكنها لم تستسلم، وواصلت دراستها في الجامعة حتى سمعت خبر حصولها على منحة الداد التي تُمنح للطلبة المتفوقين من جامعة أولم. 

وأخيراً، لُمَّ شمل العائلة، وظلّت انجاص لعام ونصف العام تتنقل بين الجامعة ودراستها وأبحاثها وبيتها وعائلتها، وذلك حتى نهاية عام 2015، لتحصل على درجة الماجستير في علوم المواد المتقدمة، وتم قبولها في برنامج الدكتوراة في دائرة الكيمياء غير العضوية مباشرة بعد إنهائها لبرنامج الماجستير. 

جمعت انجاص في مرحلة الدكتوراة بين القياسات النظرية والتجارب العلمية لدراسة كفاءة مواد تخزين الطاقة الكهربائية. تقول: "بكل شغف، بدأت أبحاثي في مجال تطوير مواد جديدة لتخزين الطاقة الكهربائية، كان مشروعي البحثي مشتركاً بين دائرتي الكيمياء غير العضوية والكيمياء الكهربائية في جامعة أولم وشركة Helmholtz-Institute Ulm، كبرى شركات الأبحاث في ألمانيا في مجال تخزين الطاقة الكهربائية وتطوير مواد ذات كفاءة عالية في مجال البطاريات، فكنت أتنقل بين تلك المباني وأتعامل مع كافة أعضاء المجموعات البحثية فيها. جمعتُ في أبحاثي بين الحسابات النظرية والتجارب العملية، وهو ما ميّز رسالتي الدكتوراة عن غيرها".

شخصية علمية طموحة

تميُّز أبحاثها في مرحلة الدكتوراة، مكنّ انجاص من الحصول على جائزة ميلفيفا اينشتاين- ماريج Mileva Einstein-Marić Prize  للعام 2017. وتمنح هذه الجائزة للنساء المتميزات في مجال الأبحاث العلمية، اللواتي سيكون لهن تأثير على تشكيل جامعة أولم كمؤسسة علمية بالتزامن مع الجمع بين الحياة المهنية والمسؤوليات العائلية بطريقة مثالية.

توالت إنجازات انجاص بعد ذلك لتُمنح جائزة Südwestmetall-förderpreis 2020، التي تهدف إلى تقدير الشباب الباحث والعالم وتحفزهم لمزيد من الأنشطة المبتكرة، حيث تمنح سنويّاً لتسعة من الباحثين المتميزين على مستوى جامعات ولاية بادن فوتمبرغ، وتم اختيار انجاص لهذا العام لتكون الحاصلة على الجائزة من جامعة أولم. وليس هذا وحسب، فبعد فترة وجيزة، تم إعلام انجاص بحصولها على منحة Margarethe-von-Wrangell Habilitation Fellowship for Women، التي تتقدم لها عدد كبير من النساء الحاصلات على درجة الدكتوراة ويطمحن في الحصول على درجة بروفيسور. 

وعن هذه المنحة، تقول انجاص "سعيدة جدا لحصولي على تلك المنحة التي ستكون بداية خطواتي نحو درجة بروفيسور، تلك المنحة هي عقد عمل لي مع جامعة أولم للتدريس والعمل على أبحاثي المستقلة وكذلك إنشاء مجموعة بحثية مستقلة. وحاليّاً، أنا مشرفة على عدد من طلاب الدكتوراة، وأحضر لمساقات لطرحها للتدريس في الفصل الدراسي القادم".

وأخيراً، اختيرت انجاص من بين الخمسة والأربعين مرشحاً للمرحلة النهائية في جائزة Reaxys PhD Prize 2020، التي يتقدم لها عدد كبير من الحاصلين على درجة الدكتوراة عن طريق تقديم وعرض ملخصات أبحاثهم وأهم نتائجها وأهمية وتأثير تلك الأبحاث، وقد تم نشر ملخص أبحاثها على مستوى العالم على صفحة Elsevier  وانضمت لنادي Reaxys Prize. 

إلى فلسطين في يوم ما

لم تغير الغربة الطويلة من انجاص وفخرها بفلسطينيتها وعروبتها، وتؤكد أن جامعة أولم منحتها فرصة رائعة للمضي قدماً في أبحاثها واكتساب الخبرات في التدريس وحتى درجة البروفيسور، ومع تلك الفرص، توضح انجاص: "أسعى جاهدة لتعميق الأبحاث العلمية المشتركة بين جامعة أولم وجامعة بيرزيت. وبالفعل، أعمل حاليّاً مع البروفيسور طلال شهوان، وقريبا مع الدكتور حجازي أبو علي من دائرة الكيمياء على مشروع بحثي مشترك، وبدأنا بكتابة أول ورقة بحثية مشتركة".

وتتطلع جامعة بيرزيت لعودة انجاص إلى فلسطين، لرؤية وجوه نسائية أكاديمية وباحثة وعالمة في مجالات العلوم. تقول انجاص "إن لم يكن قد حان الوقت بعد لعودتي أنا وعائلتي إلى فلسطين، فنحن بانتظار ذلك اليوم بفارغ الصبر". 

وتؤمن جامعة بيرزيت بحاجة فلسطين والعالم إلى النساء لتحقيق التطور والتنمية المستدامة، انطلاقاً من أن المساواة بين الجنسين في العلم أمر حيوي لتحقيق الأهداف الإنمائية المتفق عليها دوليّاً، بما في ذلك خطة التنمية المستدامة لعام 2030، حسب الأمم المتحدة.

ويأتي دور بيرزيت في تشجيع النساء والشباب الطموح والباحث والعالم، لا سيما في ظل تراجع الإقبال على تخصصات العلوم، والتوجه للتخصصات التطبيقية والعملية، حيث توفر كلية العلوم في جامعة بيرزيت برامج بكالوريوس في الأحياء والكيمياء الحيوية والرياضيات والفيزياء والكيمياء، وتسعى لتوفير المنح للطلبة في كل عام، على أن يتزامن التدريس الأكاديمي مع تطبيقات عملية في مختبرات الجامعة وغيرها، ليكون تعلم العلوم تطبيقيّاً ومشجعاً.