تكنولوجيا النانو وآفاق مكافحة كوفيد-19

يستعرض هذا المقال بإيجاز ما يمكن أن تساهم به تكنولوجيا النانو (أو النانوتكنولوجي) في مقاومة مرض كوفيد-19، من خلال فعاليتها الواعدة في الحد من إنتشاره وتطوير اللقاحات، وتشخيصه بطرق سريعة ومتيسرة، وكذلك المساعدة في علاج المرضى بطرق مبتكرة عالية الانتقائية، لا تزال قيد البحث.

  • ما هي تكنولوجيا النانو؟

في الإطار العام، تكنولوجيا النانو هي ثورة تقنية تختص بهندسة المواد من أجل زيادة فاعليتها،  وهي  تشمل تصميم، تصنيع، واستخدام تلك المواد بحيث يكون واحد من أبعادها الثلاثة على الأقل بمقاس النانومتر (1 نانومتر= 0.000000001 متر). يتطلب الوصول إلى هذا المقاس المتناه في الصغر طرقاً خاصة في تحضير تلك المواد، بعضها يحتاج إلى بنى تقنية فريدة عالية التكاليف، وبعضها الآخر يمكن القيام به في مختبرات عادية محدودة الامكانيات، وهو ما جعل الحصول على مواد نانوية ممكناً حتى في العصور الوسطى، دون أن يدرك الصناع في ذلك الوقت طبعاً ماهية المواد التي تلامس أياديهم.

تستند النانوتكنولوجي إلى حقيقة أن خصائص المواد تتغير عند تصنيعها بمقاس النانومتر، وهذه التغيرات تطال الخصائص الكيميائية والفيزيائية والميكانيكية والالكترونية وغيرها، وهو ما يمكن أن ينعكس على اللون، درجة الانصهار، توصيل الكهرباء والحرارة، المغنطة، قابلية التفاعل الكيميائي، الصلابة، وغيرها الكثير. وهذا يفتح الباب بالتالي لإمكانية تصنيع مواد جديدة بمواصفات فريدة أصبحت تمتد على اتساع الطيف الاستهلاكي في الحياة اليومية من غذاء ودواء ولباس ومعدات ومواد ضرورية ووسائل رفاهية. وفي هذا المضمار فمن الممكن إنتاج مواد شديدة الصلابة والقوة ولكنها خفيفة الوزن، وتصنيع مواد طبية ذكية يمكنها استهداف الخلايا المريضة للكائن الحي دون إلحاق ضرر بالخلايا السليمة، ودمج مواد متناهية الصغر ضمن الطلاء الخارجي أو لبنات البناء للجدران بما يمكنها من توليد الكهرباء من أشعة الشمس، وهندسة رقائق الكترونية متعددة الطبقات للهواتف والحواسيب فائقة السرعة، وانتاج ألبسة لا تقبل البلل وسهلة التنظيف، وغيرها الكثير.

  • الفايروس ومقياس النانومتر

الوباء ليس مجرد علاقة مرضية بين فايروسات وبشر، وعلى امتداد التاريخ الانساني، لطالما امتحنت الفايروسات نظم الانسان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأحدثت تغييرات على مواضع الإتزان في أوجه الحياة المختلفة. فالفايروسات جزء أصيل وكبير ضمن  النظام الحيوي والبيئي، ولها من الأدوار ما يمكن أن يضر بالانسان وما يمكن أن يفيده، وليس من الممكن عزل سلامة الإنسان عن سلامة النظام الايكولوجي ككل. والفيروسات تتحدى مفهومنا التقليدي لتعريف الحياة، حيث يصنف الفايروس ككائن عالق في منطقة رمادية بين الكيمياء والحياة. خارج خلية الانسان أو الحيوان أو النبات المصاب، يشبه الفايروس حقيبة كيميائية جامدة تتكون من مادة وراثية وغشاء بروتيني وآخر دهني أحياناً، ولكنه غير قادرة على القيام بوظيفة حيوية بشكل مستقل، وما أن يتوفر له عائل حتى يبدأ باستخدام المواد الأولية وطاقة الخلايا في العائل من أجل التكاثر.

يتراوح حجم الفايروسات من بضعة نانومترات إلى مئات النانومترات، وبهذا المعنى يمكن اعتبارها "كائنات نانوية" ليس من السهولة رصدها والتعامل معها. أما بالنسبة لفايروسات كورونا بالتحديد، فيبلغ متوسط قطرها 125 نانومتر، مما يعني أن هناك حاجة لتصاميم خاصة لأقنعة الوجه التي يمكنها وقف هذه الفايروسات، بالذات إذا لم تكن جزءاً من رذاذ متطاير.

  • تكنولوجيا النانو وآفاق مواجهة كوفيد-19

من الناحية المبدئية يمكن لتكنولوجيا النانو أن تساهم في مكافحة مرض كوفيد 19 من عدة أوجه، أولها الحد من العدوى والانتشار، وثانيها تطوير اللقاحات، وثالثها رصد المرض بطرق مبتكرة، ورابعها علاج الجسم المريض. وقد قفز إلى عناوين الأخبار  العلمية خلال الأشهر الأخيرة العديد من الانجازات في هذا المجال، ولكن البحث لا يزال جارياً وفي مراحله المبكرة، خصوصاً فيما يختص بالطرق العلاجية.

فيما يتعلق بالحد من انتشار العدوى فقد تم القيام بدراسات متعددة حول المدة الزمنية التي يمكن لفايروس كورونا أن يبقى فعالاً خلالها على أسطح ذات طبيعة معينة، ووجد أن الأسطح التي تحتوي على النحاس والفضة لديها فاعلية كبيرة في القضاء على الفايروس، حتى أن بعض المصنعين قاموا بادخال دقائق اكسيد النحاس النانوية في سوائل يتم رشها على الأسطح بغرض التعقيم، أو حتى في أقنعة الوجه الهادفة للحماية من العدوى. وبحسب إحدى المجموعات البحثية العاملة في هذا المجال فإنه يمكن لعامة الناس ارتداء قناع قابل لإعادة الاستخدام، ويوفر نفس المستوى الفائق من الحماية مثل الأقنعة المعروفة ب "N-95"، حيث يتم تثبيت جسيمات النحاس النانوية على ألياف القماش، وتقوم هذه المادة النانوية بالقضاء على الفايروسات بمجرد ملامستها لسطح القناع (1). كما يقترح استخدام مواد نانوية من بينها "الجرافين" و"الفولارين" لغايات الوقاية والعلاج، ويمكن أيضا استخدام مواد نانوية متعددة لتوصيل الأدوية إلى الجهاز الرئوي باستخدام أجهزة الاستنشاق. بالإضافة إلى استراتيجيات مكافحة الفيروسات القائمة على الأدوية واللقاحات، فإن العلاج الضوئي الديناميكي (PDT)، الذي تشكل المواد النانوية جزءاً أساسياً منه، يمثل نهجًا فريدًا يمكنه القيام بتعطيل تنشيط الفيروس، حيث يتم إثارة العوامل الحساسة للضوء في الخلايا مما يؤدي في نهاية المطاف إلى موتها. في هذا المعرض هناك مواد مختلفة من بينها أكسيد التيتينيوم ومواد نانوية تعرف اختصاراً ب "MXenes"، وهي فئة من المركبات غير العضوية ثنائية الأبعاد، التي تتكون من طبقات بسماكة ذرات قليلة من كربيدات أو نيتريدات المعادن الانتقالية، والتي يمكنها مكافحة الفايروس، الذي يمكن أن يلتصق بها بسهولة (2). 

في هذا السياق، وعلى الرغم من الحماس الذي عادة ما يترافق مع نبرة الحديث عن القدرات الفائقة لمنتجات النانو، إلا أن الاحتياط الصحي يستوجب التوقف عند إمكانية تسرب المواد النانوية الموجودة في القناع  أو المستخدمة في التشخيص والعلاج إلى أجزاء داخلية في الجسم بشكل غير مرغوب فيه، ويجدر بالتالي التساؤل عن الضمانة العملية في عدم حدوث ذلك من خلال إجراء التجارب المناسبة حول تبعات ذلك على الصحة، ونشر نتائجها للجمهور.

وكما سلف ذكره، فالفيروسات هي كائنات نانوية طبيعية، وبالتالي فإن الجسيمات النانوية المصنعة والفيروسات تعمل ضمن نفس مقياس الطول، مما يجعل أدوات تكنولوجيا النانو فاعلة للغاية في تصنيع بروتينات ومواد دهنية بمقياس النانو، والمساهمة في تطوير اللقاحات والهندسة المناعية. تحاكي الجسيمات النانوية السمات الهيكلية للفيروسات، بينما تتيح التكنولوجيا الحيوية والكيمياء النانوية تطوير تكنولوجيا اللقاح بأساليب جديدة مهيأة لإحداث تأثير سريري فاعل، ويمكنها أن تتكيف مع سلالات موسمية أو جديدة من فيروسات كورونا، سيما وأن مرض كوفيد-19  ينطوي على إمكانية أن يصبح مرضًا موسميًا يحتاج للقاحات متوفرة على نطاق واسع وسهلة الاستخدام. ومن اللافت أن أول لقاح تم إطلاقه في التجارب السريرية هو "لقاح mRNA" الذي يتم توصيله باستخدام جسيمات نانوية دهنية، وهناك آفاق واعدة لإستخدام بروتينات نانوية في أنواع أخرى من اللقاحات تقوم على "الببتايد"  أو "الوحدات الفرعية للفايروس كورونا". (3).

تتمثل الأعراض الرئيسية لـمرض كوفيد-19 بالحمى والسعال والإرهاق، وهناك أيضاً طيف من الأعراض  الأقل شيوعًا مثل ضيق التنفس، والصداع، وفقدان الشهية، واللهاث، والتهاب الحلق، والقيء، والإسهال، وسيلان الأنف، وآلام البطن. وتعتمد شدة المرض بشكل أساسي على وجود أمراض مصاحبة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض القلب التاجية. ويمكن للمرض أن يلحق الأذى بمجاري التنفس والرئتين والقلب والكلى والعينين والدماغ (2). وأمام هذه التبعات الصحية المتعددة، تتطلب أزمة كوفيد-19 تحليلًا عاجلاً لجميع أدوات تكنولوجيا النانو المتاحة وتقنيات الطب الجزيئي الحديث من أجل تطوير اللقاحات لغرض الوقاية من المرض، وتطوير جرعات دوائية تحتوي مواد نانوية لعلاج كوفيد-19. يؤكد المختصون أن التطوير العلاجي والتحديات التي تواجه هذا المرض لا تختلف كثيرًا عن الأمراض المعدية الأخرى، حيث يعتبر تطوير اللقاح والمعلومات المتعلقة بالتشكل الهيكلي لفيروس كورونا والفيسيولوجيا المرضية والاستجابة المناعية ذات الصلة أمراً حيوياً لعلماء النانو (4).

ختاماً، تجدر الإشارة إلا أن كوفيد-19 أحدث لدى الأوساط العلمية نزعة نحو مزيد من الانفتاح على نشر المعلومات والمعطيات في المصادر المفتوحة عبر الانترنت، وهذا يشكل رافعة للتعاون العالمي في مكافحة مرض يهدد الجنس البشري دون تفرقة، سيما وأن هناك العديد من التحذيرات التي يطلقها علماء الأوبئة والصحة العامة من أن كوفيد-19 قد يشكل نقطة انعطاف في أنماط الحياة المعتادة، تنذر بأن المزيد من الأوبئة الأكثر فتكاً قد ربطت أحذيتها وانطلقت، مما يستدعي التفكير في الفجوة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون في علاقة الإنسان بذاته، وعلاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان مع البيئة.  

مقالات علمية متخصصة ذات صلة:

1. https://www.nanowerk.com/nanotechnology-news2/newsid=55736.php

 2. https://pubs.acs.org/doi/10.1021/acsnano.0c03697

3. https://www.nature.com/articles/s41565-020-0737-y

4. https://www.nanowerk.com/spotlight/spotid=55501.php

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.