الأسئلة الغائبة في نقاش أزمة الجامعات

لا يكفي أن تنظر إدارات الجامعات والنقابات والحكومة إلى الأزمة المالية للجامعات الفلسطينية من منظور مواقعها فقط، ومقدرتها أو عدمها على إنهاء الأزمة المالية الحالية، من خلال معادلات مالية تبقى ملتصقة بمعطيات آنية تغييب الأسئلة الرئيسة المتعلقة بالتعليم العالي.السؤال الرئيسي الأول المغيّب في هذه الأزمة هو: مسؤولية من التعليم العالي؟ من هذا تتفرّع عدة أسئلة، منها: مَن هو المستفيد من التعليم العالي من منظور كلي، أي من منظور الحكومة والدولة والمجتمع، وليس من منظور فردي، وهل تقع أية مسؤولية على الأطراف المستفيدة، وهل تتحمل هذه الأطراف حالياً هذه المسؤولية؟ وأخيراً وليس آخراً: ما هو دور الجامعات في عالم اليوم؟ سأبدأ بالسؤال الأخير وهو سؤال واسع، إذ إن للجامعات أدواراً مختلفة ومتعددة، وأشير فقط إلى أحدها. فمن المتعارف عليه اليوم أن التعليم بشكل عام والتعليم العالي بشكل خاص يشكل البنية التحتية للاقتصاد الوطني في كل الدول. ولا يمكن لمجتمع ما النهوض اقتصادياً دون جامعات قوية. وما سُمّي بـ اقتصاد المعرفة أي ارتباط الاقتصاد بالعلم يعكس هذه العلاقة. والأمر هنا لا يتعلق فقط بوجود جامعات أو عددها أو عدد الدارسين فيها وإنما أساساً بنوعية ومستوى التعليم فيها. هذا يستلزم عدة أمور منها: استقطاب كفاءات ذات مستوى جيد في سوق عمل مفتوح إقليمياً وعالمياً. والجامعات الفلسطينية ليست في وضع منافس وهذا أقل ما يمكن أن يقال عنها. التكلفة الحالية للدراسات وحاجات الجامعات التطويرية تتحملها الآن أولاً الجامعات نفسها، ثم الطلبة، وأخيراً دعماً محدوداً من الحكومة. أما المستفيد الأول من التعليم العالي فلا يتحمل أية مسؤولية. من هو المستفيد الأول؟ هو الاقتصاد الوطني والمجتمع ككل. من يمثله؟ تمثله الحكومات والدول. هذا ما هو الأمر عليه في دول العالم المختلفة، وهذا ينعكس في سياسات محددة والتزامات مالية، وينعكس في الحالة الفلسطينية في أخطاء شائعة عن الأدوار، أشير منها إلى اثنين:الخطأ الأول: إن الحكومة مسؤولة أو يجب أن تكون مسؤولة عن الجامعات الحكومية فقط. هذا غير صحيح. ففي معظم دول العالم تتحمل الحكومات مسؤولية مباشرة عن دعم التعليم العالي بالإنابة عن المجتمع ككل، سواء أكان اقتصادها رأسمالياً أم مختلطاً والأمثلة هنا كثيرة. ويندر أن تجد بلداً ما يتحمل فيه الطالب كل تكلفته الفعلية باستثناء ما يحصل في الجامعات التجارية وهي نماذج موجودة أساساً في الدول المتخلفة، ولنا في فلسطين منها نصيب. الخطأ الثاني: إن فلسطين في وضعها الراهن تحت الاحتلال بلد فقير يعيش على المساعدات بانتظار الانعتاق من هذا الوضع، ولا يمكن تحميل المسؤولية الكبرى للحكومة نظراً لمحدودية الموارد حتى لو سلّمنا أن الحكومة بالإنابة عن من هو مستفيد، أي المجتمع، يجب أن تتحمل هذه المسؤولية وإنما في ظروف أفضل. الخطأ هنا لا يكمن في توصيف الوضع الحالي وإنما في الافتراض أن حصة التعليم العالي كنسبة مئوية من موازنة الحكومة هي أقصى ما يمكن توفيره. الموضوع هنا يتعلق بأولويات الحكومة وبالنسب المئوية التي تقسم بها الموازنة لكل قطاع. صحيح أن الحكومة عرضة لضغوطات مختلفة وإنفاقات ملحة، لكن السؤال هو عن الأولويات وعن الاستثمار لأغراض الحاضر والمستقبل، وعن حصة الجامعات من الإنفاق الحكومي بالإنابة عن المجتمع. إن القطاع الخاص في فلسطين وفي دول أخرى هو من أوائل المستفيدين من وجود جامعات، لكنه لا يتحمل أية مسؤولية مباشرة في دعم التعليم العالي. في الدول الرأسمالية تقوم الحكومة بالإنابة عنه بهذا الدور من خلال دخلها من ضرائب متنوعة، أي أن الحكومات تقوم بتوفير الاستثمار الأساسي للقطاع الخاص في البنية التحتية العلمية الضرورية له. في فلسطين تقوم إدارات الجامعات بدعم القطاع الخاص عن طريق مساعيها المختلفة للحصول على دعم من مصادر مختلفة، ويقوم الطلبة أيضاً بدعم القطاع الخاص، وهذا هو معنى رسوم الدراسة. الأمر هنا مطروح ليس من زاوية الفائدة الشخصية للطالب كاستثمار في مستقبله، وإنما من منظور المجتمع ككل والعلاقة بين المسؤولية والاستفادة. وما ينطبق على القطاع الخاص ينطبق أيضاً على القطاع العام، أي جميع خريجي الجامعات الفلسطينية الذين يعملون في الدوائر الحكومية المختلفة. الوضع في فلسطين إذاً هو عكس ما هو موجود في معظم الدول: إدارات الجامعات والطلبة يقدمون الدعم للحكومة وللقطاع الخاص، وهما أكبر مشغلين حالياً وسيستمران في البقاء أكبر مشغلين في المستقبل حتى لو تفاوتت النسب بينها من حيث التشغيل تبعاً للظرف الاقتصادي. هذا وضع غريب حقاً لا يمكن تبريره بالحديث عن محدودية الموارد، فالمعادلة هنا مقلوبة. فبالإضافة إلى ضريبة الدخل التي يدفعها المواطن والضرائب الأخرى المباشرة وغير المباشرة الموضوعة على سلع مختلفة بما في ذلك ضريبة الشراء أو القيمة المضافة، يطلب من إدارات الجامعات والطلبة دعم أكبر مستفيدَيْن من التعليم العالي، أي القطاع الخاص والقطاع العام. كيف تم الوصول إلى هذا الوضع المقلوب؟ أي الافتراض الخاطئ أن التعليم العالي مسؤولية فردية يتحملها الطالب وتتحملها إدارات الجامعات، بينما المستفيد الأول من منظور كلي ومن منظور الدولة هو القطاعات الكبرى المشغلة؟ هذا سؤال آخر غائب عن نقاش أزمة الجامعات الفلسطينية.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.