العلاقة الحميمة بين بيرزيت ومحيطها

ما حدث في المجتمع الفلسطيني خلال سبعينات القرن الماضي كان مفاجئاً وغير متوقع، حيث بدأ الناس بالتفاعل متأثرين ومؤثرين بما يحيطهم وبما يحدث في داخلهم. فبغياب سلطة شرعية، كان للناس حرية القيام بما هم مقتنعون بضرورته، بصرف النظر عن الثمن الذي قد يدفعونه بالمقابل. ومن بين السمات المفاجئة في تلك المرحلة ذلك الانسجام العفوي في أنشطة الناس. لقد شهدت هذا الأمر العديد من المرات بحيث يمكنني أن أجزم بأنه يعكس قدرة طبيعية يتمتع بها الناس والمجتمعات، وهي قدرة تعكف المؤسسات الحديثة على قمعها باستمرار.

بين عام 1971 و1978 كنا وحدنا، نعيش في ظل واقع قاسٍ. ولم نكن نملك شيئاً سوى أنفسنا، وأصدقائنا، وثقافتنا ومجتمعنا. كان المدرسون يعملّون بدافع قيمهم وقناعاتهم وليس بدافع المكسب الشخصي أو الفائدة المهنية. وبهذا المعنى، ينبع الأمل مما يملكه الناس، والمجتمع، والثقافة والطبيعة. وهكذا اكتشفنا القوة الكامنة في داخلنا.

"خلال السبعينات والانتفاضة الأولى، شقّ الشباب طريقهم عبر الشقوق القائمة في جدران البنى القمعية، وفاجأوا العالم، كما فاجأوا أنفسهم بما يستطيعون فعله بما يملكون."

كان الإبداع خلال السبعينات والانتفاضة الأولى عملاً جماعياً، وليس فردياً (رغم أن بعض التصرفات اتخذت شكلاً فردياً). كذلك كانت القيادة سرّية في كلا الحقبتين. لم تكن هناك شخصيات قيادية مرموقة، بل كانت القيادة تنتقل من شخص إلى آخر أو من مجموعة إلى أخرى حسب الظروف والتوقيت.

وفي نفس الوقت، كان هناك تواصل مع العالم بأسره، حيث كان هناك الكثيرون ممن كانوا يتواصلون مع بيرزيت ويقومون بزيارتها باستمرار. كانت بيرزيت قبلة الأكاديميين، والكتاب، والفنانين، والنشطاء والطالب من كافة أنحاء العالم. هذه العلاقة الوثيقة التي كانت تربط بيرزيت بالأحداث على الساحة الفلسطينية جاءت نتيجة لغياب البنى والحدود الواضحَين، حيث لم تكن هناك حدود بين الإدارة، والأساتذة والطلاب، كما لم تكن هناك حدود بين الجامعة والمجتمع المحيط. لم تكن هناك جدران تعزل الطالب في داخلها عن غيرهم في الخارج. كانت مباني الجامعة ملاصقة للبيوت. إن أفضل وصف لهذه الروح هو حسن الضيافة، رغم أنها كلمة غير مألوفة في وصف الجامعات.

تمثل بيرزيت كنزاً فلسطينياً يحسن استكشافه. ففي السبعينات، كانت كلية صغيرة، ولكنها كانت تلهم العالم بأسره. فقوتها وقيمتها كانتا تنبعان من علاقاتها مع مجتمعها، ومن روح  التمرد التي تشعّ منها ضد كافة محاولات كسر شوكة الناس.

منير فاشه في محاضرة له في جامعة بيرزيت في السبعينيات

كان طالب بيرزيت في السبعينات مليئين بالنشاط والحيوية. فكانوا يقومون بالكثير من الأنشطة، كالغناء، والرقص الشعبي، والتظاهر، وقطف الزيتون، وتنظيف الطرق وتنظيم معارض الكتب. وكانت العلاقة بين الأساتذة والطلاب لا تقتصر على ساعات الدوام المحددة، بل كانت عالقة مفتوحة على مدار اليوم وبعدة طرق. وكان الحوار حول شتى المواضيع مفتوحاً. لم يكن ما يقرأه طلاب بيرزيت مجرد الكلمات، بل أنهم كانوا يقرأون الحياة. لم يكن المغزى ينبع من الكتب والقواميس فحسب، بل كان ينبع من التجربة، والتأمل والنقاش.

لا يسعني أن أصف ما قمنا به في السبعينات بالمتفائل، بل بأنه كان عملاً مفعماً بالأمل. فالتفاؤل يرتبط بنتيجة إيجابية في المستقبل (حالة ذهنية)، بينما يتمظهر الأمل في فعل ما يمكن للمرء فعله في الحاضر (سمة العيش بانسجام مع الحياة). إن الأمل هو تعبير عن قوة الحياة. ومن الصعب على المرء الذي لم يخض تجربة الأمل أن يدرك ما تعنيه الكلمة حقاً. فالأمل هو أحد مظاهر الحياة التي يصعب التعبير عنها بالكلمات، أو فهمها بالعقل وحده. كانت هناك الآلاف من الأعمال الصغيرة العفوية التي شكلت تعبيراً عن الأمل في السبعينات.

إن التحدي الماثل أمام بيرزيت اليوم هو استعادة قوة الذاكرة الجماعية التي تشكل سلاحاً كبيراً في أيدي الناس ويمتلكها كل مجتمع. لا يملك الفلسطينيون آبار نفط أو مناجم ذهب، إلا أنهم يملكون كنزاً كبيراً من الخبرات، والروايات، والتاريخ والثقافة. لطالما كررت القول آن فلسطين تصلح كمكبّر يمكن بواسطته رؤية ما يحدث في العالم كله. فبعض الكنوز التي ذكرتها قد تكون ذات مغزى للجامعات التي تسعى لتحديد رؤيتها: كيف لا يوجد الكثير من التعليم، ولكن هناك قدر كبير من التعلّم؛ وكيف لا توجد منافسة شديدة، ولكن هناك حوافز داخلية كبيرة، وكيف لا توجد الكثير من الأبحاث، ولكن هناك بحث متواصل عن المغزى. إن تاريخ بيرزيت ليس فقط تاريخ إغلاقات وقمع، بل هو أيضاً تاريخ من التعاطف، والشجاعة والإبداع.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.