الجامعة والمجتمع: حول الأزمة المتراكمة لجامعة بيرزيت

المجتمعات «كائنات» تتغير باستمرار، وهذا أمرٌ من أمور طبيعة الحياة البشرية. الفرق بينها في عملية التغيير هو في الوتيرة. فهناك مجتمعات تتغير بصورة أسرع من غيرها، وهناك مجتمعات حركة التغيير فيها متباطئة، وأخرى تعاني من بطء شديد في هذه الحركة. 
ما يتحكم بسرعة الوتيرة هو معادلة القوى الفاعلة داخل المجتمع. بالعادة، يوجد داخل المجتمعات قوى مختلفة في توجهاتها، منها ما يدفع باتجاه التغيير، ومنها ما يمانع التغيير. 
والتفاعل بين تلك القوى الداعمة لنقل المجتمع من حالةٍ إلى أخرى، مع تلك التي تتخندق للحفاظ على وضعيته القائمة وتمانع التغيير تحت دواعٍ مختلفة، منها الادعاء بالخصوصية أو الاستعلاء أو الدفاع عن الحظوة والمنافع، هذا التفاعل هو الذي يتحكم بسرعة وتيرة التغيير داخل المجتمعات. 
فكلما كانت قوى التغيير قوية أمام قوى الحفاظ على الأمر الواقع، جاء التغيير بوتيرة أسرع، والعكس صحيح. 
إنها مواجهة بين مرجعيتين متضاربتين ونمطيّ تفكير مختلفين، يُسخّر لها كل طرفٍ المرجعيات والنماذج والأدوات والمؤسسات الخاصة به.
المجتمعات لا تتغير من «المركز»، بل من الأطراف، أي من «الحواف». فـ «المركز» هو نواة المجتمع الصلبة، ويتشكل من القوى التقليدية المحافظة الحاملة والحامية لاستمرارية وضعيته على حالتها القديمة، تريد أن تُشكّل حاضر ومستقبل المجتمع على نفس شاكلة ماضيه. 
هي ماضوية ومناوئة للتغيير، ولذلك لا يتوقع لـ «مركز» المجتمع أن يقود، أو أن يساهم إيجابياً، بعملية تغيير ذاته، فهذا مخالف لطبيعته ومضاد للدور المناط به. 
أما «الحواف»، وكلما ابتعدت عن «المركز»، نجدها وقد تحررت من تكبيلات قيوده، وأصبحت حاضنة حداثية قادرة على طرح واحتضان وقيادة المحاولات التغييرية للمجتمع وفكفكة منظومة نواته الصلبة. إذا، تغيير المجتمع هو صراع بين «المركز» و»الحواف»، كل منهما يحاول اختراق الآخر والهيمنة عليه وإلغاء تأثيراته.
مع أن «الأنوية الصلبة» للمجتمعات تقيم لنفسها جامعات تُنشئ من خلالها أجيالاً مُلقنّة وطيّعة تحافظ من خلالها على ثبات الوضع القائم، إلا أن الجامعات بالأساس هي مؤسسات تغيير تتمركز في «الحواف». 
الجامعة الحقيقية هي ليست مخزناً يحشو الأجيال الجديدة بالقديم، بل هي مصنع يُنتج الجديد من القيم والفكر والعلم، وكلها ضرورية لإحداث التغيير المجتمعي. 
ولكي تستطيع تحقيق ذلك عليها تحصين نفسها من سطوة «النواة الصلبة» عليها، فهي من يجب أن يؤثر إيجابياً على هذه النواة، وليس العكس. 
لذلك وجود الجامعة في «الحواف» يُتيح لها إمكانية أكبر لتوفير حيّز حرّ ومنفتح داخلها، يتيح لمرتاديها التداول في مختلف شؤون الحياة وصنوف المعارف. 
هذا التداول، الذي يسمح بالاختلاف (وليس الخلاف) الضروري لتنمية الفكر والمعرفة هو الأساس اللازم لقيام الجامعة بدورها التنويري، ولكي يتمتع من هم بداخلها بفضاءٍ حرٍ ومنفتح يسمح لهم بالخروج على المألوف والإتيان بما هو جديد، لا اجترار القديم والتوقف عند حدوده.
من أجل إتاحة المجال لهذا الفضاء بالتشكّل، اتُفق على اعتبار الجامعة «حرماً» داخلها مفصول عن خارجها، ويتمتع بحصانةٍ لممارسة التداول الحر. 
داخل هذا «الحرم» مسموح، بل مطلوب، إطلاق العنان للبحث والتفكير، وللنقاش الحرّ، ولمراكمة المعرفة التي تقود للابتكار والإبداع. فالجامعة تتوقف عن كونها كذلك إن اقتصر دورها على التحفيظ التلقيني، واجترار القديم من المعارف، والحفاظ على الوضع القائم. 
ولكي تستمر الجامعة في أداء دورها التنويري المُشع على المجتمع، فإن التفاعلات «المحصنة» داخل «الحرم الجامعي» تُنظّم وفقاً لمبادئ عامة متعارف عليها، تنبثق عنها قوانين وأنظمة وتعليمات يتقّيد بها جميع الأفراد والأطراف الموجودة داخل هذا «الحرم»، كي يتم الحفاظ على الحرية الضرورية لقيام الجامعة بدورها، ولضمان عدم تحوّل هذه الحرية إلى فوضى تطيح بأساسيات الحياة الأكاديمية. 
أحد هذه المبادئ، على سبيل المثال، أن الحرم الجامعي لا يُغلق من داخل الجامعة، وإن حصل إغلاق فهو مفروض على الجامعة من خارجها. 
وتجدر الإشارة إلى أن مبدأ آخر، وهو أن حرية التجمع يجب أن تكون مكفولة لجميع مكونات الجامعة، والعمل النقابي يجب أن يُحترم، وقد يؤدي ذلك في أحيان إلى تعطيل العمل داخل الجامعة، ولكن مع إبقاء الحرم الجامعي مفتوحاً. 
فكل مكوّن من مكونات الجامعة يمكنه تعطيل العمل داخل الحرم الجامعي، مع الالتزام بالإجراءات المرعيّة، ولكن لا يحق له أن يغلق أبواب الجامعة على المكونات الأخرى.
ما تشهده جامعة بيرزيت الآن من إغلاق للحرم الجامعي من داخلها، وهي ليست المرّة الأولى ويا حبذا أن تكون الأخيرة (وهذا لا يعني على الإطلاق حجر النشاطات النقابية داخلها)، يشير إلى أمرين مهمين. الأول، ويتعلق بالمدى الكبير الذي حققته «النواة الصلبة» للمجتمع من نجاح في فرض هيمنتها على «الحواف». فالجامعة التي كانت - ليس منذ زمن بعيد لشخص مثلي كان من ضمن الفوج الأول لخريجيها وعمل فيها جلّ سنوات حياته العملية وما زال - رائدة عملية التغيير الإيجابي الذي أحدث تحولات نوعية في المجتمع، لما كانت تتمتع به من مساحة حرّة في «الحواف»، تتعرض منذ فترة لعملية تطويع تستهدف جرّها إلى داخل منطقة «النواة الصلبة» للمجتمع، كي تفقد ميزتها النوعية في الاستمرار بريادة عملية التغيير المجتمعي، وتنخرط عوضاً عن ذلك في الحيّز «الاعتيادي المقبول» ضمن منظومة هذه «النواة» التي ينحصر جلّ اهتمامها في الحفاظ على الوضع القائم. 
إنه لأمر محزن متابعة المسار التراجعي لدور هذه الجامعة نتيجة انتقالها المتسارع من موقع «الحواف» الذي أتاح لها أن تكون تغييرية وخلاقة، لتصبح مجرد مؤسسة «اعتيادية» من خلال احتوائها ضمن بنية «النواة الصلبة» للمجتمع. 
لقد أدى هذا الانتقال عبر السنوات الماضية ليس فقط إلى تآكل الميزة الأكاديمية للجامعة، وإنما إلى إفقادها الجزء الأهم من دورها الريادي في قيادة عملية التغيير المجتمعي. 
وإن لم يتم التوقف بعناية أمام هذا الأمر ومحاولة معالجته بجدّية، فإن الجامعة ستستمر في مسار الانحدار.
أما الأمر الثاني فيتعلق بتفاقم أزمة إغلاق «الحرم الجامعي» المتكررة، والتي يفرضها مكوّن من مكوّنات الجامعة على مكوناتها الأخرى، والتي كلما انتهت واحدة منها قيل إنها ستكون الأخيرة، ولم تكن. ولن تكون هذه المرّة كذلك إلا إذا تمّت معالجة الأمر جذرياً من خلال الاتفاق على والالتزام بمبادئ أساسية تحكم مجريات العمل داخل هذا «الحرم»، بما يسمح بديمومة فتحه من جهة، وعدم المساس بالعمل النقابي داخله، من جهة أخرى. 
واضح أن تكرار هذا الإغلاق عبر السنوات الماضية وحتى الآن كان نتيجة عدم استخلاص العبر بعد كل أزمة إغلاق والعمل على إيجاد حل جذري لها يؤدي إلى عدم حدوثها مستقبلاً. 
بل كان الحال حتى الآن هو الإسراع لإيجاد مخرج للأزمة الآنية في حينه بشكلها المنفرد، وليس المتكرر، والعودة للدوام وكأن الأمر لم يكن، وذلك من خلال اتّباع «نهج التسويات» القائم على التدخلات والوساطات من هنا وهناك لإنتاج «عبور آمن» لتخطي الأزمة، ليس من خلال معالجة جذورها، وإنما بالطبطبة عليها وتأجيل معالجتها عن طريق دحرجتها للأمام.
لا يمكن لنهج التسويات أن ينتج حلولاً دائمة تحقق الاستقرار المستمر للجامعة. وعلى هذا الأساس لا يجوز أن يحلّ هذا النهج مكان ضرورة الالتزام بمبادئ عامة متفق عليها، وبما ينتج عنها من قوانين وأنظمة وتعليمات تحكم العلاقة بين جميع مكونات الجامعة. 
عدا ذلك سنبقى نتخطى أزمة لنبدأ مباشرة في المراكمة لتفجير أخرى. ولعلّ الأساس في تفادي ذلك يكمن في ضرورة فتح حوار مباشر ومُعّمق داخل الجامعة بعد إعادة فتح أبوابها للاتفاق على هذه المبادئ، وضمان الالتزام بها في المستقبل.
في الخلاصة يجدر التنويه بأن الجامعة تمرّ الآن بمفترق طرق ستتحدد بموجبه ماهيتها ودورها المستقبلي. وعلينا جميعاً تقع مسؤولية الخيار والاختيار.  
 

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.