كورونا: صياغة جديدة للتعليم "هي المسافة... تمرين البصر على اعمال البصيرة"!

رغم أننا تعودنا على الإغلاقات ومنع التجول والظروف الاستثنائية طوال حياتنا، فإن "جائحة" كورونا تبدو مختلفة بعض الشيء.

فاليوم يبدو العالم كله في حالة "منع تجول"، مما يجعل المعاناة فردية وعالمية معاً، وكأنها كلما عظمت قلت وطأتها. حياة الفلسطيني هي سلسلة من محاولة عيش الطبيعي في اللاطبيعي دائماً، كأنها حياة برغم الحدث. هناك موعد فيها مع حدث يوقف تسلسلها الاعتيادي: فمن النكبة إلى النكسة إلى حرب الخليج والانتفاضة الأولى والثانية إلى صفقة القرن، عدا عن النكسات اليومية المتواصلة بسلسلة لا تتوقف.

كورونا كثفت كل هـذا ووضعته في فترة تبدو أطول، وتحت رقابة أكبر، بحيث يرتبط الخوف على النفس بمدى سيطرتها على ظروفها المحيطة.

إغلاق الجامعات والمدارس كان سريعاً في الضفة الغربية، وفي البداية صدمنا جميعنا وتخبطنا حول ماذا سنفعل وكيف، ولكن بسرعة المعتاد على التفكير تحت وطأة الحدث القاطع، بدأت العجلة تدور وأصبح التدريس باستخدام تقنيات التعلم عن بعد التابعة للجامعة - كانت بداية نشأة فكرة التعلم عن بعد مع الانتفاضة الثانية في جامعة بيرزيت، ولكنها أهملت آخر عشر سنوات، ظناً أن الفلسطيني الآن، وتحت حكم السلطة، ليس لديه ظروف استثنائية كما كان سابقاً. برغم كل الانتقادات والتعليقات والسلبيات والمحددات، فإن تجربتي مع التعليم عن بعد حتى هذه اللحظة كشفت لي بعض الأمور، منها أن لدى الفلسطيني، في أغلب الظن، أكثر من غيره، باعاً طويلاً زمنياً من الخبرة الخاصة بانقطاع التعليم وبالتعلم عن بعد.

فمنـذ اللجوء الفلسطيني سنة ١٩٤٨، مروراً بالانتفاضتين إلى يومنا هذا، هناك قصص ومحاولات مبدعة عن التعليم قبل إنشاء المدارس، إلى التعليم الشعبي والتفنن في طرقه، إلى قصص اكتشاف المواهب الأخرى في زمن الحروب ورواية وكتابة القصص إلخ.

والآن، وقد هدأت الشوارع وتوقف الدوران، ولسخرية الأقدار تفتح الربيع في الخارج، وأقعدتنا الطبيعة في الداخل كي تأخذ استراحة لتنمو ولتنتزع مكانها منا، ذلك المكان الـذي ملكته دوماً قبل الثورة الصناعية، ورغم الحزن على من فقدوا، والخوف من القادم، فإن هناك الكثير الذي نتعلمه اليوم من وقف الروتين اليومي والمؤسسة المدجنة. وفي هـذه اللحظة، تأتي تجربة التعلم عن بعد لتمثل تحدياً لنا جميعاً، وقد تكون دعوة لإعادة تعريف المعرفة ولصياغة جديدة للتعليم.

أحس أن تجربتي بالتعليم عن بعد حتى الآن ممتعة، وفيها شيء من الجمال، رغم التعب ووجوب حضور مهارات أخرى من إدارة النقاش، وعمل محاضرة مع عدد ليس بالقليل من الطلبة، والسعي في نفس الوقت إلى جلب انتباههم وجعل المحاضرة مادة للتفكير وليس للتلقين. وأعتقد أن التحدي الأكبر هو جعل المادة بصورة أو بأخرى قريبة لما نمر به اليوم، أو على الأقل حساسة لما نمر به اليوم، كي يكون التعليم جزءاً من حياة المتعلم. أحاول استثمار جميع  النظريات والأمثلة في التعليم، لمحاولة فهم ما يحصل اليوم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فأبدأ المحاضرة بسؤالهم عن مشاعرهم وما يقلقهم، أي أجعلها أقرب لهم قدر المستطاع لأدخلهم في جو المحاضرة والتعليم، كأنه فيلم هم جزء منه، بل وأكثر كأنه فيلم هم أبطاله، هم من يصنعوه، وأندمج أنا "كبطلة" أساسية أو مخرجة. أنتظر لقائي بهم كأنه لقاء بصديقة في مقهى، لنبدأ حواراً مفتوحاً في حيز أصبح مغلقاً.

أنا فخورة كل الفخر حتى هذه اللحظة بمدى المشاركة من معظم الطلبة، ومن قدر الإحساس بالمسؤولية، ومن الرغبة في التعلم والجلد والتحمل عند الكثير منهم. لقد عبر لي الطلبة عن الضغط النفسي الـذي يعيشونه وعن السأم من الدراسة عن بعد، ولكن أيضاً هناك من عبروا عن أنهم ينتظرون بعض المحاضرات، وأنها تساعدهم على الاستمرار. يبدو أن هناك فئة من الواضح أنها لم تحظ بالفرص نفسها نظراً لعدم وجود أجهزة كمبيوتر أو اتصال أنترنت، أو وجود نساء ظروف حياتهن اليومية تجبرهن على القيام بمعظم الأعمال البيتية، وهذا ليس عادلاً ويجب إيجاد طريقة لإنصافهن.

وعلى المستوي الشخصي، تذكرني هــذه الأيام كثيراً بالفترات الطويلة التي قضيناها بلا دراسة خلال الانتفاضة الأولى. أذكر أنني في الانتفاضة الاولى قرأت معظم الكتب في مكتبة أبي، وفي حرب الخليج أكملت جميع كتب نوال السعداوي، وما تبقى من نقاشات حول الماركسية والإسلام.

كنت أحس أن أي تعطيل لفترة طويلة عن المدرسة هي فرصة للتعلم؛ التعلم الذي أحب! كان كل واحد منا يبدأ بعمل ما يحب حقاً، وهذا شكل آخر من أشكال التعليم غير المؤسس، الذي لا تسمح به مجريات الحياة اليومية السريعة وشبه المنظمة. هو شكل آخر من التعليم "غير المنظم" ولكنه تعلم متعلق بالشغف أكثر.

لعل هـذا الوضع أعاد الأمور إلى أبجدياتها في بعض أو كثير من الحالات، أي التعلم كحالة حب وشغف وحالة طوعية مبنية على تعزيز النفس والنضج الفكري. فعندما يغلق باب يفتح باب آخر. لعل هـذا الوضع أيضاً فرصة لنا كمعلمين لإعادة التفكير، ولتطوير طرق التعليم لدينا، لتصبح أكثر علاقة بحياتنا اليومية، وأكثر علاقة بالوضع العالمي، وأكثر علاقة بالإنسان، وأكثر علاقة بحب المعرفة، وهي فرصة للبحث في جوارير لم نفتحها منـذ زمن وعلى جميع المستويات.  

كما يقول درويش:

هي المسافة ...تمرين البصر على أعمال البصيرة!

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.