حتى لا نفقد البوصلة: القدس عربية وفلسطين عربية

ارتبطت قضايا فلسطين بقضايا العرب منذ عهود، فإليها رحل آلاف العرب قبل تشكل الدولة الحديثة- الامة الدولة-  وقبيل نشأة دول الاستقلال ما بعد المرحلة الاستعمارية في الوطن العربي.

فمنذ بداية عمليات تشكل اليقظة العربية وإعادة النهوض بالأمة العربية وإحياء القومية العربية في بداية القرن التاسع عشر، كانت فلسطين في قلب هذا التشكيل وشكلت إحدى روافده الاصيلة والاصلية؛ حيث أدى المشروع الاستعماري في المنطقة ووقوع فلسطين تحت تأثير استعمار مزدوج بريطاني" انتداب" ومشروع استعماري صهيوني مرتبط بالأول؛ الى تحول المشروع الاستعماري الصهيوني الى مشروع مناقض لطموح الامة العربية بالوحدة والاستقلال، واعتبار "إسرائيل" جسم غريب في المنطقة وكاستمرار للنظم الاستعمارية الغربية وامتداد لها. 

 شكلت فلسطين وشعبها وقضاياها قبلة العرب ومصدر الهامهم ومكان تضحياتهم؛ وأضحت رافدة من روافد تشكل مشروعهم القومي المتمني وأضحت القضية الفلسطينية قضية العرب الاولى؛ ومؤسسة لتشكل وعيهم بالدفاع عن فلسطين وشعبها كجزء من الدفاع عن الذات العربية؛ وكلبنة من لبنات تحقيق حلم الوحدة والخلاص. فانخرط العرب في قضايا فلسطين والدفاع عنها؛ بدء بدفاع المغاربة عن القدس سليلي هجرة الأمير عبد القادر الجزائري؛ مرورا بالقسام السوري وبآلاف المقاتلين العرب الذين قضوا ودفنوا على ارض فلسطين دفاعا عنها وعن عروبتها.

وربما يجب تذكير من نسي أن ضحايا العرب من الصراع العربي- الصهيوني؛ رقميا أكبر عددا من ضحايا الفلسطينيين أنفسهم؛ ومازالت مقابر فلسطين في غزة وجنين والفالوجة. وكذلك مقابر الأرقام التي تديرها الآلة الحربية " الإسرائيلية" تعج برفات آلاف الشهداء المصرين والعراقيين والسورين والأردنيين واللبنانيين والجزائريين والمغاربة من رسميين واهليين (جيوش وافراد)...

 وكذلك كما هو معروف فقد قتلت دولة الاستعمار الصهيوني آلاف العرب في القاهرة وسيناء والعريش وبورسعيد وبيروت ودمشق واغارتها على أهداف عربية في تونس وبغداد... وانضم آلاف العرب الى فصائل المقاومة الوطنية بدء من ناشطي حركة القوميين العرب؛ مرورا بفصائل العمل الوطني والعربي. ان عشرات من شهداء الحركات والأحزاب الفلسطينية بمشاربها الأيدلوجية المختلفة والذين قادوا عمليات عسكرية في السبعينيات والثمانينات كانوا عربا ولم يكونوا فلسطينيين "بالمعنى الجغرافي" ولكنهم كانوا فلسطينيين بالمعنى الانتمائي.  وخوضت حروب من قبل دول عربية عديدة دفاعا عن فلسطين ودفاعا عن الامة العربية؛ ودمرت ضواحي وأحياء وبنى تحتية ثمنا للدفاع عن فلسطين والانحياز لها؛ علاوة على صياغة برامج عشرات الأحزاب العربية لتوائم بين المحلي والقومي وفى غالبية هذه الحالات كانت فلسطين فيها قضية محورية او مركزية.

ومن نافلة القول ان آلاف الباحثين العرب والجامعين كتبوا وبحثوا وألفوا دفاعا عن عمليات التأريخ الفلسطينية؛ بدء بالموسوعة الفلسطينية في الستينيات مرورا بالثيمات البحثية لعشرات الموضوعات البحثية عن فلسطين، وأنتج العرب آلاف الاعمال التعبيرية الفنية والثقافية في المسرح والسينما والادب، عن فلسطين وعن قضايا الفلسطينيين. وجرى إنشاء المراكز البحثية في الجامعات والمراكز البحثية العربية؛ والمراكز المتخصصة في الانحاء المختلفة في الوطن العربي حول فلسطين وقضايا الصراع العربي- "الإسرائيلي".  وكذلك تبرع آلاف العرب بعوائد مالية وباستقطاعات من رواتبهم على مدى سنوات طويلة لصالح الفلسطينيين ولصالح مؤسساتهم ومنظماتهم، اما عبر وسائط دولاتية رسمية عربية أو عبر هيئات أهلية محلية.

رغم ما ذكر أعلاه، نعيش اليوم على وقع تصورات انغلاقيه محلية تبالغ في التنكر لهذا الدور العربي المتداخل مع الوطني الفلسطيني. تستلهم هذه التصورات مصوغاتها من غصة الناس من الأدوار التي لعبتها الأنظمة العربية تاريخيا تجاه قضية فلسطين ومن تآمر بعضها على فلسطين وشعبها، وحتى على حركتها الوطنية في لحظات تاريخية محددة. وبالتأكيد فإن الكل يدرك ان الأنظمة العربية كلها استخدمت القضية الفلسطينية من اجل كسب المشروعيات المتهالكة، وكتبرير في حالات عديدة لقمع شعوبها.  وكلنا يدرك ان نقمة الشعب الفلسطيني على الأنظمة العربية ليس بجديدة، وبل يمكن تفهمها حتى من قبل شعوب الدول العربية نفسها. اما جديد اليوم فهو تنامى خطاب انعزالي يعمل على الاستخفاف بالعربية كلغة وبالأمة العربية وبالشعوب العربية، فتارة يتم استحضار خطاب وطني فلسطيني يدعى بان ضعف” الرسمي الفلسطيني" هو بسبب ضعف العرب ويتم تناسى ان ممارسات الرسمي الفلسطيني كانت قد دفعت العديد من القيادات العربية لتفعل ما تفعله اليوم، وان ما يحدث ما هو الا نتيجة متوقعة من تبعات الاتفاقيات التي وقعها الرسمي الفلسطيني وفتحت الأبواب على مصراعيها لهذه الأنظمة لاعتبار الصراع العربي- "الإسرائيلي" صراع فلسطيني "إسرائيلي" ؛ تحت مقولة  تبريرية استخدمها الفلسطيني وهى ان ما يقبل به الفلسطيني تقبل به الدول العربية تحت شعار" القرار الوطني الفلسطيني المستقل". وتنبري بعض الأقلام اليوم مطالبة "بفلسطنة القضية الفلسطينية" وبفلسطنة الصراع كتعبير عن سخط بعض الفلسطينيين من انسحاب الدول العربية من الصراع، دون التميز عند البعض بين الشعوب العربية وانظمتها.

 وتنعكس هذه الازمات والتشوهات لتصل الى حد يصل ببعض المثقفين الأكاديميين لاستحضار ادعاءات تعمل على إعادة "تملك التاريخ القديم للحضارات القديمة" في فلسطين والتمسك بها على حساب الهوية العربية وجعلها في سلم التراتبيات الهوياتية الانية. كما لو كانت هذه الانتماءات القديمة والتي هي جزء من الهوية الفلسطينية المتعددة العابرة للتاريخ وللحضارات كما هو الحال لأشقائنا العربووارثي الحضارات القديمة أيضا في المشرق وفى المغرب وفى بلاد الحجاز وفى الخليج العربي..؛ وكأنها هي التي تحدد وعى والناس وارثهم الثقافي وتبرر سلوكياتهم وتمثيلاتهم الهوياتية المتخيلة المستحضرة للإرث التاريخي القديم؛ بالتضاد مع هويات عربية مرتبطة "بصحراء استشراقية متخيلة". في حين ان الكنعانية وارثها لا يؤثر في المخيال الثقافي الفلسطيني المعاصر؛ وما يؤثر بهم هي العربية كمرجعية لغوية ومعرفية وكأداة للتفكير تصنع وعيهم وحاضرهم وهوياتهم وتؤثر في لهجاتهم على نحو لا يقارن مع تأثير المفردات المتناقلة من الحضارات السابقة.

وكذلك يجرى تداول استيهامات عن "محلية " وخصوصية اجتماعية واقتصادية مرتبطة بالإرث الفلاحي" المتخيل" مقابل "نمط بدواى" كما لو كان يثار للتحالف التاريخي الحضري البداوي بالمعنى الخلدونى. وكأن هذه الخصوصية الثقافية ليست جزء ومكون أصيل متعدد من مكونات أخرى تمثل العربية حجر الأساس فيها وفى ارثها. وبل يذهب البعض الى استحضار خطابات انعزالية تحاول الادعاء بفوقية "البحر والحاضرة العربية على "البادية العربية". وكأن البادية العربية وحواضرها كانت تاريخيا بمعزل عن حواضر المتوسط. ويسقط البعض في فخ التعميمات والصور النمطية كما لو كان كل اشقائنا في الخليج العربي يشبهون حكامهم او كما لو كانوا مسؤولين عن أفعال حكامهم ضد فلسطين.  

وتتناسى هذه الادعاءات ان الشعوب العربية أسيرة ومسلوبة الإرادة وتخضع لعمليات الهاء منظمة واليات استبطان لخطابات دولاتية تصنع هويات فرعية قطرية ومحلية فتجعل من الدفاع عن موقف حاكم عربي او مسؤول نظام دفاعا عن وطنية هذا البلد او ذلك؛ وتلعب عبرها وسائل اعلام دولاتية ووسائط تواصل اجتماعي افتراضي من فيديوهات وتغريدات تواترية الى تضخيم هذه التمثلات الدولاتية لبعض الافراد في الوطن العربي. ويسقط مجموعة من العرب والفلسطينيين في هذا الفخ وتبدء معها وعبرها عمليات الإساءات المتبادلة.

من المؤكد ان " صفقة القرن" والتبدلات الرسمية العربية خاصة من بعض اقطاب بعض دول من الخليج تجاه فلسطين وتجاه مدينة القدس لعب دورا في تخصيب هذه الإساءات المتبادلة.

مقابل هذا التردي الراهن يستحضر البعض خطابات إنسانية تستعيض مؤقتا بها عن الخطابات العروبية والتي تستدخل أدوات وتعبيرات الهيمنة المعولمة، والتي تنظر بعين الشك والريبة الى الإعلانات الهوياتية العربية واعتبار الصراع الفلسطيني صراع فلسطيني -"إسرائيلي" وفقا للفهم المعولم للعلاقات الدولية المرتبطة بمحددات الصراع بين اطراف محددة، دفاعا عن فكرة الدولة الامة وصراع فلسطين ضد "إسرائيل"؛ هذا الخطاب الانساني يساوى بين "الإسرائيلي" وبين الفلسطيني؛ ويفرض شروط واستحقاقات منها على سبيل المثال لا الحصر ان القدس عاصمة لدولتين او القدس مدينة مفتوحة للجميع ويساوى بين الادعاءات المختلفة دون التركيز على طبيعة الصراع القائم بين "الإسرائيليين" كمستعمرين والفلسطينيين كمستعمرين. 

بالتأكيد لا أحد يعتقد انه لا ابعاد كونية للصراع، ولا احد يعتقد بانه على الفلسطينيين تهميش دور الرأي العام العالمي او لدور الشعوب غير العربية في مناصرة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية عادلة ذات مدلولات كونية؛ ولكن يجب التنبه الى ان المطالبات الفلسطينية بعروبة القدس كما صدحت بها حناجر المقدسين والفلسطينيين في سخنين والجزائر وعمان ما هي الا إعلانات صريحة واضحة تعيد الاعتبار لمبررات التمسك بالهوية العربية للقدس وما نزول الملايين في الشوارع العربية الا توكيدا على استعادة البعد العربي للقضية الفلسطينية وللقدس العربية كعاصمة عربية ومكون أساسي من مكونات الهوية العربية. ومن المرجح ان تعمل هذه الحراكات العامة في الشوارع العربية على اسقاط على الأقل شعبيا التقسيمات التي يفرزها الخطاب الانسانوى والقانوني الدولي الهش والمرتبط بجماعة دولية متخيلة عاجزة؛ وتسقط التخيلات عن قدس "شرقية" و"غربية". ان إعادة الاعتبار لعروبة القدس، ولعروبة القضية الفلسطينية كقضية مركزية للعرب هو مطلب للشعوب العربية وللامة العربية وفى مقدمتهم الشعب العربي الفلسطيني قد أضحى أكثر من ملح وأكثر من ضروري كي لا نفقد البوصلة ونسقط في فخ الشرذمة والتشظي.

 

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.