دونالد ترامب والصراع في فلسطين

إزاء تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب حول الحل المنشود للصراع، خاصة خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأخيرة للولايات المتحدة، قامت جوقة كبيرة في معظم وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة وفي عدد من الدول في أوروبا أيضا، بانتقاد الرئيس ترمب وشجب تصريحاته نظرا لأنهم فهموا منها أنه تخلى عن حل الدولتين. وأشار الكثير من المعلقين والكتاب أن ما تخلى عنه هو موقف الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية والعربية أيضا خلال العقود الثلاث الأخيرة على الأقل، وأن هذه سابقة خطيرة وموقف غير مسؤول حول الحل للصراع في فلسطين.

وقد يبدوا لأول وهلة أن هذا النقد والشجب والإستنكار ليس غريبا ومستهجنا ذلك أن الرئيس ترمب لم يؤكد على الموقف التقليدي للولايات المتحدة حول الحل المنشود، أي حل الدولتين، وإنما ترك الأمر مفتوحا بقوله أنه مع أي حل يتفق الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي عليه. 

أقول لأول وهلة، لأن هذا النقد والشجب يستدعي تفسيرا. والسبب في ذلك أن الرئيس ترمب لم يخرج إلا لفظا عن السياسة الفعلية والحقيقية للولايات المتحدة والدول الأوروبية والدول العربية أيضا. والسياسة الفعلية والحقيقية هي التمسك لفظا بحل الدولتين وكأنه فعلا الموقف الحقيقي والفعلي للولايات المتحدة ودول أخرى، وترك المشروع الصهيوني في فلسطين مستمرا على قدم وساق والمتمثل أساسا بالإستيطان الزاحف وقضم الأرض، سواء في القدس أو باقي الضفة الغربية، إلى درجة أن العديدين يرون الآن أن حل الدولتين أصبح في حكم المنتهي، خاصة مع ازدياد سطوة اليمين في إسرائيل وانعكاس ذلك في عضوية الكنيست ومن ثم الحكومة أيضا. 

وقد شاهدنا في السابق تصريحات عدة لمسؤولين أمريكيين وأوروبيين إزاء الإستيطان المستمر وسرقة الأرض الفلسطينية، من نوع أن هذا المسعى "لا يسعف" عملية السلام، أو أنه "يعقد" مساعي الحل وغيرها من التصريحات الباهتة والواهنة، التي لا تترك أي أثر على المشروع الصهيوني في فلسطين، بل يمكن النظر إليها أنها، موضوعيا، تفتح الباب على هذا المشروع لأنها لا تترافق مع أي ضغط فعلي يؤثر على السياسة الإسرائيلية. وهذا ما يعرفه جيدا الساسة الإسرائيليين ويعرفون أن هذه التصريحات هي من باب حفظ ماء الوجه لئلا يبان أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية تخلت عن موقفها اللفظي تجاه الحل. 

بالتالي، كيف نفسر هذا الشجب والإستغراب والإستنكار الذي لاقته تصريحات الرئيس ترمب الذي تخلى لفظا فقط وليس فعلا عن موقف الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية؟ ما هي أهمية الموقف اللفظي بوجود افتراق كبير وصارخ بينه وبين الموقف الفعلي؟ لماذا توجد حاجة على ما يظهر للحفاظ على الموقف لفظا وليس فعلا وعملا؟ هنا يوجد سؤال يلزمه تفسير. وهذا ينطبق أيضا على قرار مجلس الأمن الأخير رقم 2334 المناهض للإستيطان الذي امتنعت الولايات المتحدة عن نقضه باستخدام الفيتو، أي لماذا احتاجت الولايات المتحدة والدول الأوروبية خاصة لتوكيد الموقف اللفظي في غياب ضغط فعلي وعملي مؤثر على دولة إسرائيل للتوقف عن مساعيها إلغاء حل الدولتين على الأرض؟

الإجابة الممكنة في رأيي على هذه التساؤلات تكمن في التالي: فيما يتعلق بالولايات المتحدة في الساعات الأخيرة لإدارة الرئيس أوباما وقرار مجلس الأمن، يمكن جزئيا تفسيره بأنه مسعى "لتصفية بعض الحسابات" مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي ناكف وصارع الرئيس أوباما وبشكل محرج أحيانا داخل الولايات المتحدة أيضا. أقول جزئيا لأن الولايات المتحدة كدولة عظمى لها مصالح إسترايجية واقتصادية في المنطقة وأرجاء مختلفة من العالم لا بد أن يكون لها مواقف محددة معلنة من الصراعات المختلفة الجارية بما في ذلك الصراع في فلسطين. هذا بمعزل عن السياسة الفعلية التي قد تختطها والمحدودة بعوامل شتى في أي وقت من الأوقات، بما في ذلك عوامل داخلية تضع قيودا على ما يمكن عمله وعلى وأولويات السياسة الفعلية، كما هو الحال في الولايات المتحدة فيما يتعلق بفلسطين. ومثال ذلك في حالة إدارة أوباما، أنها قررت خوض معركة واحدة مع إسرائيل ومساندوها داخل الولايات المتحدة، وعلى "الملف" النووي الإيراني، الذي كان من الواضح سلفا أنه سيستنفذ الرصيد السياسي الداخلي لإدارة أوباما، وقد نجحت في هذا وإنما بشق الأنفس.

وينطبق الأمر نفسه على الدول الأوروبية الرئيسية التي لها ماض إمبريالي وما زال لها مصالح في المنطقة وإن كانت الآن في كنف الولايات المتحدة فيما يتعلق بالصراع في فلسطين تحديدا،أسوة بانطباقه على الولايات المتحدة والدول العربية. هذه الدول جميعها تحتاج أن يكون لها موقفا تجاه الصراع، ولكن ما هو أهم، أن قرار مجلس الأمن المشار إليه يهدف في المقام الأول للإبقاء على حل الدولتين قابلا للتسويق السياسي كموقف، هذا بمعزل عن ما إذا كان فعلا قابلا للتحقق. وفي غياب أو أفول هذا الشعار، من غير الواضح ما سيكون موقفها من الحل. وهي لن تكون مع حل الدولة الواحدة لأنه يبان لها أنه غير واقعي وبسبب رفض إسرائيل له. وهي كدول لها أدوار مختلفة في المنطقة تحتاج لمواقف معلنة حول الحلول للصراعات كما هو الحال في عدد من الدول العربية التي فيها صراعات حاليا. بالتالي، كان قرار مجلس الأمن مسعى لإنقاذ موقفها اللفظي من الحل وليس موقفها الفعلي.

وأعود الآن إلى الإستهجان والإستغراب والنقد لتصريحات الرئيس ترمب التي لم تؤكد على حل الدولتين بل بان أنها تخلت عنه، أو أسوأ من هذا، إذ بانت أنها دون موقف، إذ قال أنه سيقبل بما يتفق عليه الطرفان. والأمر الأساسي هنا هو أن ترمب ظهر في هذه التصريحات وكأنه تخلى عن الموقف المراد إبقائه قابلا للتسويق السياسي، أمريكيا وأوروبيا وعربيا، حتى لو كان غير قابل لتحقق فعلا بسبب غياب أي ضغط فعال على دولة إسرائيل من أي طرف كان.

بالتالي، إن نقد ومعاتبة ترمب واستهجان تصريحاته من قبل وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة التي ادعت أنه تخلى عن موقف له عقود من الزمن تجاه الحل للصراع، كان في الواقع يتعلق بتخليه عن الموقف اللفظي وليس الموقف الفعلي للولايات المتحدة الذي لا يختلف جوهريا عن ما قاله. فقد قال ترمب أنه يوافق على ما "يتفق" عليه الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني، وهذا يعني في ميزان القوى المختل لصالح إسرائيل، أنه يوافق على ما توافق عليه إسرائيل. لكن هذا تقريبا هو الموقف الفعلي للولايات المتحدة وليس الموقف اللفظي. 

لقد كان "خطأ" ترمب إذا في إعلانه أنه مع الموقف الفعلي للولايات المتحدة والدول الأوروبية وليس مع الموقف المراد الإستمرار في تسويقه سياسيا. وليس من المستغرب أن يتم تصحيح هذا "الخطأ" خلال الأسابيع أو الأشهر القادمة، والذي ارتكبه ترمب بسبب قلة "خبرته" بالسياسة. 

 

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.