بيرزيت في الميزان

عند الحديث عن جامعة كجامعة بيرزيت، ماضيها وحاضرها ودورها وأثرها في المجتمع الفلسطيني، يتبادر إلى الذهن التميز الأكاديمي، والحركة الطلابية الفاعلة، والأجواء الليبيرالية المنفتحة التي تتسع لكامل الطيف الفلسطيني، وشبكة علاقاتها المحلية والدولية، ورؤيتها ورسالتها، مساحاتها الخضراء، وأبنيتها الجميلة. ولعل أفضل طريقة يمكن بها إدراك دور وتأثير الجامعة فيما حولها هو أن نسأل أنفسنا السؤال التالي: ماذا لو لم تكن هناك جامعة بيرزيت؟

عشت جامعة بيرزيت بمراحلها الثلاث، عشتها كطالب، وكنت أفكر كالطلبة، وعشتها كأكاديمي، وكنت أفكر كالأكاديميين، وعشتها وما زلت كإداري، وأفكر كالإداريين. وفي كل مرحلة، كنت أضع نفسي في حذاء الآخر كما يقول المثل، فلم أقطع شعرة معاوية، ولكني لم أتوقف عن السؤال، أتساءل كأكاديمي لماذا يغلق الطلبة بوابة الجامعة، وأتساءل كطالب لماذا ترفع الإدارة أقساط الجامعة، وأتساءل كإدارة لماذا تقوم النقابة بتعليق الدوام؟

أذكر في عام 1974، وقد كنت طالباً في السنة الأولى في هذه الجامعة، خرج طلبة الجامعة في مظاهرة عارمة متجهين إلى مدرسة الأمير حسن لإخراج الطلبة وإشراكهم في المظاهرة، على أثر الخطاب الشهير الذي ألقاه الشهيد ياسر عرفات في الأمم المتحدة، وكان على رأس المظاهرة رئيس الجامعة الدكتور حنا ناصر. أحاطت بنا قوات الاحتلال من كل صوب، وتيقن الجميع أننا في ورطة كبيرة، غير أن الدكتور ناصر أصر أن تفتح قوات الاحتلال الطريق أمام الطلبة المتظاهرين ليمروا بسلام، وفي تلك الليلة، تم استدعاء الدكتور ناصر إلى مبنى الحاكمية العسكرية في رام الله، ووجهت له تهمة التحريض ضد الاحتلال، وتم إبعاده إلى خارج فلسطين لمدة 19 عاما.

في حزيران 1980، أصدرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أمراً عسكرياً يحمل الرقم (854)، وينص على وضع مؤسسات التعليم العالي تحت إمرة الحاكم العسكري الإسرائيلي، ومنحه السيطرة على تسجيل الطلبة وتعيين الطاقم الأكاديمي والإداري.  قاومت جامعة بيرزيت بحركتها الطلابية وعامليها وإدارتها هذا القرار، ورفضت الانصياع له، إلى أن تم إيقاف تطبيقه.

في كانون الثاني 1988، وبعد شهر من اندلاع الانتفاضة الأولى، شهدت جامعة بيرزيت أطول إغلاق في تاريخها، واستمرالإغلاق واحدًا وخمسين شهرًا. خلال هذه الفترة، أبدعت بيرزيت في التكيف ورفض الأمرالواقع، ولم تثن رأسها أمام العواصف، وواصلت التدريس خارج حرمها الجامعي المغلق، في قصر الحمراء وجمعية الشبان المسيحية في رام الله، وغيرها من الأماكن المبعثرة، وحافظت على المعايير الأكاديمية، لم تكن تشبه الجامعة في شيء، إلا في الجو الأكاديمي الذي كان الجميع من هيئة أكاديمية وإدارة وطلبة مصرين على ديمومته وعدم انقطاعه.

لم تتعرض أي مؤسسة أكاديمية في فلسطين إلى انتهاكات الإحتلال بأشكالها المختلفة كما تعرضت لها جامعة بيرزيت، فقدمت الجامعة العشرات من فلذات أكبادها شهداء، واعتقل العديد من طلبتها وأساتذتها وموظفيها، وتم اقتحامها ليلاً ونهاراً، وأغلقت على يد الاحتلال أكثر من خمسة عشر مرة، ومنع الكثير من أساتذتها من البقاء، كما أنها تتعرض في وسائل إعلام الاحتلال إلى حملات تشويه للإضرار بها وبسمعتها.

بيرزيت تاريخ حافل من العطاء والبناء والنضال، بناء الإنسان الفلسطيني وتثبيته على أرضه هو أسمى هدف خطته الجامعة لنفسها، لجامعة بيرزيت اليوم شبكتها الواسعة من العلاقات الدولية، وتشمل مشاريع بحث مشتركة وبرامج تبادل وتفاهمات. وتعمل الجامعة جادة للحفاظ على هذه العلاقات وتوسيعها . الكل في جامعة بيرزيت من إدارة وعاملين وطلبة حريص على استمرار جامعة بيرزيت في تأدية رسالتها، قد تختلف وجهات النظر، وقد يحدث اختلاف في الوسائل، لكن الكل يجمع على الهدف.

يخطئ من يعتقد أن بإمكانه وضع إدارة جامعة بيرزيت في كفة ميزان ويضع في الكفة الأخرى مكون آخر بهدف المفارقة بينهما  في الهدف أو التوجهات. فبيرزيت ومنذ نشأتها رسمت لنفسها نهجاً واضحا، وضعها في كثير من الأحيان في مشاكل مع القريب والبعيد، لا تجد خريجاً من هذه الجامعة وقد تجاوزوا الأربعين ألفاً إلا ويحمد الله على نعمة التحاقه وتخرجه من جامعة بيرزيت. ولا ترى زائراً رسمياً قدم ضيفاً إلى فلسطين إلا وكانت وجهته بيرزيت، فبيرزيت وجه الوطن المشرق، وجدت لتبقى رايتها خفاقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.