أزمة جامعة بيرزيت – المستدامة

بالرغم من سمعة جامعة بيرزيت المتميزة وجوّها الليبرالي الديمقراطي والمنفتح، فإنها تواجه بين الحين والآخر أزمات تعصف بها وبكينونتها، وربما هذا الجو الليبرالي بالذات هو الذي يسمح بهذه الأزمات، ولو خيرت الجامعة بين الجو الليبرالي وبين الجوّ القمعي لحل أزماتها لفضلت مئات المرات أن تبقى الأزمات وأن لا يتم المسّ بالجوّ الديمقراطي في الجامعة.nbsp; وأنا مدرك أن مجلس الجامعة قد اتخذ قرارات فصل صعبة بالنسبة لعدد من الطلبة – يظهر أنها تتناقض مع ما ذكرته أعلاه حول الجوّ الديمقراطي، ولكن الجوّ الديمقراطي لا يعني التعبير عنه بإغلاق الجامعة بالجنازير ومنع الآخرين من دخولها، فهذا ليس هو الجوّ الديمقراطي الذي أتحدث عنه، فإغلاق حرم الجامعة هو أمر خطير ويجب أن يكون خطاً أحمرَ لا يتم تجاوزه. وتعبير حرم الجامعة هو تعبير لغوي يشير إلى حرمة الجامعة ولهذا لا تسمح الجامعة للشرطة بدخول الحرم ولا تسمح بالسلاح في الجامعة ولا تسمح إلا بما يؤكد حرمتها. وإغلاقها بالجنازير ليس بأمر يمكن لأي طالب أن يتشدق به ويفتخر به ليقول مستقبلاً إنني أغلقتُ حرم الجامعة، فمن يريد أن يتفاخر يقول أنا ساهمت في حل مشكلة وأبقيتُ حرم الجامعة مفتوحاً. نعم، هكذا يتوقع المجتمع من طلبة الجامعات ومن طلبة جامعة بيرزيت بالذات. ومن الجدير بالذكر أن قرارات مجلس الجامعة هي قرارات مشروطة – ويمكن العدول عنها (أو معظمها) إذا ما تم فتح الجامعة قبل يوم الاثنين، وآمل أن تكون هذه المدة كافية لحل الإشكال وتصفية الأجواء للبدء بعام دراسي مثمر وبنّاء – يعتز به مجتمع الجامعة، طلبةً وأساتذة وموظفين وإداريين، ولتبقى روح بيرزيت ساطعة نستنير ونسترشد بها جميعنا. وبعيداً عن موضوع الإغلاق والعقوبات المترتبة عليه، فإن هنالك حاجةً ماسة لتفهم وتوضيح الأمور للطلبة أنفسهم ولأهاليهم وللمجتمع حول أزمة الأقساط. وقد يستغرب البعض أن الموضوع أسهل بكثير مما قد يتصورونه، فالمشكلة المالية – التي بسببها قام الطلبة بإجراءاتهم - هي مشكلة محلولة إلى حد كبير، وذلك لأن الجامعة أقرت إجراءين يسهلان الأمور المالية بالنسبة للطلبة: أحدهما قديم ومستمر، وهو أنه يمكن لأي طالب غير مقتدر، أن يحصل على مساعدة مالية ضمن إجراءات محددة. وفي اكثر من بيان للجامعة أظهرت الإحصائيات حجم المساعدات التي تقدمها الجامعة سنوياً للطلبة، أما الإجراء الجديد فهو أن كل طالب مستجد يمكن أن يأخذ مساعدة مالية إذا ثبت عدم قدرته على دفع الأقساط، وفي السابق كانت هذه المساعدة تعطى للطلبة بعد الفصل الأول، وبالتالي كان بعض الطلبة لا يقومون في الأساس بالتقدم بطلبات التحاق للجامعة لعدم مقدرتهم على دفع أقساط الفصل الأول، ولكن الإجراء الجديد شجعهم على الالتحاق بالجامعة منذ البداية. إذن يجب أن لا تكون هنالك مشكلة مالية أساسية لدى الطلبة في دفع أقساطهم، ولكن هنالك في المقابل مشكلة مالية حقيقية لدى الجامعة نفسها لا تحلها الأقساط وحدها لأن الأقساط تشكل حوالي 60% فقط من التكلفة الحقيقية للطالب، وهذا هو المفصل الأساسي للأزمة، فعلى الجامعة أن توفر من مصادر مختلفة حوالي 40% من تكلفة كل طالب، والمصادر المختلفة لا تعني قطعياً الطالب، وإلا لما تمكن، حتى الطلبة المقتدرون، من الالتحاق بالجامعة بسبب الكلفة العالية. والإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الجامعة حول الأقساط تساعد قليلاً في حل أزمة الجامعة المالية، ولكن لا تحلها بالكامل، وفي نهاية الأمر، فإن مسؤولية تأمين الموارد المالية الكافية للجامعة هي مسؤولية مشتركة بين الجامعة والسلطة الوطنية. وفي هذا المضمار، فإن الجامعة وعلى مدى أعوام كثيرة تحملت مسؤولياتها في تأمين هذه الموارد وتمكنت من تخريج آلاف الطلبة، وفي الوقت ذاته بناء حرم جامعي متميز، وبالتالي يجب أن يكون الطالب مرتاحاً أن بإمكانه أن يحصل على تعليم في بيئته الوطنية وبكلفة معقولة نسبياً، ولو حاول الطالب الدراسة في الجامعات العربية أو الأجنبية – حتى المجانية منها، لواجه حقيقة النفقات المتفاقمة بسبب تكاليف الإعاشة المكلفة بعيداً عن الوطن، والسفر وما شابه. أما السلطة الوطنية – وهي الشريك المسؤول الآخر عن تمويل التعليم العالي – كما أشرت أعلاه، فقد ساهمت أكثر من مرة في تحمل هذه المسؤوليات ولكن ليس بالحد المطلوب، والحد المطلوب هو ما أقرته السلطة نفسها في موازنتها على مدى سنوات ولكنها لم تلتزم به كلياً. وجزء من مشكلة الجامعة المالية هي أنها بنت موازنتها على تلك المخصصات المقررة، وحينما لم توفر السلطة إلا جزءاً من هذه المخصصات، حصل الخلل وتراكمت الأزمة المالية سنة بعد سنة، وإذ تتفهم الجامعة أزمات السلطة المالية إلا أنها تحترم الشراكة والمسؤولية وستظل تبذل ما بوسعها لحل المشاكل المالية جذرياً. وفي موضوع الشراكة مع السلطة فهنالك من يعتقد أن مسؤولية تمويل الجامعات يجب أن تقع كلياً على الجامعات – خاصة وأنها جامعات ليست حكومية. ولكن الجامعات الفلسطينية هي في معظمها جامعات وطنية غير ربحية، والشراكة معها ضرورة لتوفير تعليم عال للطلبة الفلسطينيين. والاستثمار في التعليم العالي الفلسطيني وتنمية الموارد البشرية هي من أهم مسؤوليات السلطة الوطنية، وإن كان هنالك أي تحفظ من مساعدة الجامعات (أو توفير مخصصات لها) مباشرة، فإن هنالك حلاً آخر للشراكة – ألا وهو مساعدة الطلبة أنفسهم وبشكل مباشر. وفي بعض الدول النامية وغير النامية تنشئ السلطة صندوقاً للتعليم العالي يمكن للطلبة غير المقتدرين أن يتقدموا بطلبات لهذا الصندوق، ويقدم الصندوق منحاً أو قروضاً أو مزيجاً منهما للطلبة، وبهذا يتمكن الطالب من دفع قسطه دون أرق أو تعب، وبذلك تصبح الجامعة منهمكةً في العملية التربوية وليس في العملية المالية، وتصبح العلاقات بين إدارة الجامعة والطلبة – ليست مبنية على المشاكل المالية والإغلاقات والعقوبات وما شابه، وإنما علاقات مستندة إلى عملية البناء والتطوير، وبمعنى آخر تستقيم العلاقة – لأن البعد المالي (الذي هو دائماً مصدر الأزمات) أصبح خارج الصورة. وضمن هذا الترتيب – إن تم العمل به- تشرف السلطة لتتأكد أن الأقساط هي ضمن المعقول وأن الجامعات ملتزمة بمعايير محددة حتى لا يحصل ارتفاع في الأقساط دون مبرر. ومن المهم الإدراك أن إنشاء مثل هذا الصندوق ليس بأمر إداري بسيط، وإنما يحتاج إلى مثابرة في تغذية الصندوق – بملايين الدولارات، نعم ملايين إن لم تكن ملايين الملايين. وأنا متأكد أن هنالك الكثير من الدول العربية والأجنبية الصديقة – التي يهمها رعاية الفلسطينيين – ستجد أن مثل هذا الصندوق هو أحد أهم الاستثمارات في فلسطين لأنه استثمار مباشر في الإنسان الفلسطيني وفي قضاياه. وأنا مدرك أن أكثر من فصيل سياسي طرح مثل هذا الموضوع في المجلس التشريعي، وبالتالي لا أدعي احتكاري لهذه الفكرة، ولكنني أذكّر بأهميتها البالغة في حل الأزمات المالية المستدامة للجامعات الفلسطينية إذا ما تم تنفيذها، ويمكن الاسترشاد أيضاً بصندوق سيادة الرئيس محمود عباس لمساعدة التعليم العالي للفلسطينيين في لبنان. هكذا تبنى الحلول، وهكذا نساهم في تنمية مؤسساتنا الوطنية، وهكذا نجنبها الاحتكاك السلبي مع الطلبة وتحويله إلى حراك إيجابي في طرح الأفكار والنهوض بالجامعات إلى مستويات أفضل. وإلى حين تبني هذا الاقتراح (أو أية اقتراحات أخرى تساهم في تمويل الجامعات مباشرة أو في توفير مخصصات للطلبة أنفسهم) فإن هنالك حاجة لأن تقوم الجامعة ببعض الإجراءات المالية المتعلقة بالأقساط – كما فعلت هذا العام - لتخفيف حدة أزمتها المالية، مع التأكيد، كما أشرت سابقاً، على مبدأ المساعدات المالية للطلبة غير المقتدرين. أعود للأزمة القائمة على أبواب الجامعة وأدعو أصحاب الرأي من قيادات المجتمع وحكمائها أن يساهموا في معالجة مثل هذا الوضع. لقد قرأت انتقاداً لإدارة الجامعة من أحد المتحدثين الرسميين لأحد الفصائل السياسية ولكنني لم أجده يوفر حلاً، ولم أسمعه يعلق على إغلاق أبواب الجامعة بالجنازير. نعم إن الجامعة مؤسسة ليبرالية وديمقراطية ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك، ولكن مثل هذا التوجه الليبرالي يحتاج إلى مؤازرة ودعم وتعاطف، فهل لي لأن أدعو من هذا المنبر الجميع من داخل الجامعة أولاً وثانياً وثالثاً ومن خارجها لاحقاً تفهم الوضع كما هو ودون لبس؟ وعدا عن ذلك فإن جامعة بيرزيت ستهوي وربما تهوي غيرها من الجامعات التي لعبت وتلعب دوراً بارزاً في المحافظة على هوية المجتمع الفلسطيني المحاط بالأخطار. ولن أشير إلى التعبير الدارج أن الاحتلال سيكون المستفيد الأول من مثل هذا الانهيار، ولكن سأقول إن الشعب الفلسطيني نفسه هو من سيكون الخاسر الأول والأخير. د.حنا ناصررئيس مجلس أمناء جامعة بيرزيت

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.