طقوس الإهانة

فلسطين وطن بحواجز.. يتبارد للذهن أن فلسطين مزروعة بالحواجز أو أن فلسطين تنبت بها الحواجز. هذه الاستعارة ليست من باب المبالغة بقدر انها مشهد حياتي للفلسطينيين يرافقهم بحياتهم اليومية. يقلقهم يؤرقهم يذلهم يهينهم يهددهم ويدميهم. ربما لن تسعفني اللغة لاصف بها الحواجز ووقعها على الناس؛ بدءا من سقوط مئات الفلسطينيين الذين قتلوا ؛مرورا بعشرات النساء اللواتي اجهضن وصولا لعشرات المرضى الذين قضوا انتظارا. بل يمكن القول أن تكون فلسطينيا يعنى أن تعتاد على التوقف في مسيرتك اليومية نحو يومك أو خلال يومك فيستوقفك حاجز استعماري. على الحاجز يستعاد المشهد المستعمرى بكل حذافيره وخصائصه. تحصى مؤسسات حقوقية وجود اكثر من 500 بأنواعها: الثابتة والمؤقتة والطيارة والمتنقلة والمفاجئة والموسمية تتوزع عليها حياة الافراد وحيواتهم. و يسمي المستعمر الحواجز كما يشاء ويعطيها الصفة التي يشاء فبعضها دولى كالذي يربط اسرائيل بكيان معاد كتسميته لقطاع غزة. وبعضها الاخر يفصل اسرائيل عن مناطق السلطة الفلسطينية والمقسمة لثلاثة انواع ا، وب، وج تختص الأولى بصلاحيات أمنية للسلطة الفلسطينية، وثانيها مشترك وثالثهما لإسرائيل؛ وفى الحقيقة كل هذه التقسيمات هي تلك التي تدافع عنها فقط السلطة الفلسطينية لأنها تبقى لها مشروعية وهمية حيث أن اسرائيل فعليا منذ عام 2000 قوضت هذه التصنيفات؛ ويمكن للمواطن الفلسطيني أن يشاهد حاجزا اسرائيليا طيارا أي متنقلا او مفاجئا في قلب البيرة وعلى بعد مئات الامتار من المقاطعة.هذا الواقع المعاش ليس وليد صدفة او مرتبط بسياق محدد نتيجة لسياسة جديدة، بل هو تطبيق لسياسة مدروسة تتجلى فيها أعلى درجات الهندسة الاجتماعية الاستعمارية للآخر حيث تستخدم كل الطرق للهيمنة على الجسد وتطيعيه بمنطق فوكو وتجسد سياسات الحيوية (biopolitique) و أدوات تطييع الجسد والسيطرة عليه والتحكم به؛ وعمليات انتاج علاقات القوة لصالح الالة الاستعمارية وممثليها على الحواجز. والحواجز ليست مجرد حيزات مكانية جغرافية للتوقف والتدقيق كما يحدث بأماكن أخرى بالعالم؛ فالحاجز في المشهد الفلسطيني هو تطبيق فعلى لرؤية اسرائيل للسكان الفلسطينيين وتصنيفاتها القانونية؛ بمعنى أنها تقسم السكان الى حملة جنسيات اسرائيلية- فلسطينيي 48- وحملة الهويات الزرقاء للفلسطيني القدس الشرقية، وكذلك لسكان الضفة الغربية و اخرى لسكان قطاع غزة، ولحملة هويات العائدين الخ. ويرافق ذلك ممارسات تمييزية على الحواجز وتخصيص حواجز يسمح المرور منها ولا يسمح لفئات أخرى عبورها؛ وحواجز مسموح المرور منها وممنوع العودة منها كما في حال حاجز الجيب- شمال القدس- ويترافق ذلك مع سياسات التصاريح بأنواعها والذين يتعدون اكثر من مائة نوع وتجعل كل السكان رهائن لطبيعة السياسة التي تقرها هذه الحكومة أو تلك وفى هذا السياق أو ذاك كما في حالات العقاب الجماعي كمنع سكان منطقة معينة من الخروج او الدخول. وتخلق بها وعن طريقها صنافات اجتماعية ووكلاء رسميين لها وغير رسميين لاستصدار التصاريح. وعليه تصبح حياة الفلسطينيين وسلوكياتهم مرتبطة بطبيعة الوثيقة وبطاقة الهوية التي يحملها لمرور الحاجز او عدمها. هذا التصنيف الاستعماري لا يهدف فقط للسيطرة على السكان ولكنه ايضا يقسم المستعمرين إلى صنافات مختلفة والذي يجعل الحاجز مكان للتمييز بين الفلسطينيين أنفسهم؛ بقولا آخرا يعيد الفلسطينيين انتاج التصورات الاستعمارية عن ذواتهم. وهى سياسة قديمة متجددة ومتغيرة تستخدم فيها كل أشكال الرقابة بدءا بممارسات سطلة الجندي الصغير وانتهاء بنظم التحكم التكنلوجي للمعلومات.وعند الحاجز تتبدل المواقع الاجتماعية والاقتصادية وتخلق شرائح صنافات اجتماعية فثمة حواجز مخصصة لحملة البطاقات الاشخاص المهمين VIP وأخرى لقطاعات معينة كرجال الاعمال- ليعمل الاقتصاد الفلسطيني ويلحق بالإسرائيلي- وأخرى للمرضى وآخر فقط مسموح في فترة الأعياد الخ. وكلها تفتح وتغلق حسب مزاج الجندي أو الجندية. وعلى الحاجز؛ بالإضافة لخضوعك لعمليات الاذلال المنظمة والدائمة فقد ينتظرك مصير مختلف، وقد يسألك الجنود كل شي وعن أي شي: لماذا انت ذاهب لهناك؟ ما العلاقة التي تربطك بمن في السيارة؟ من اين اشتريت هذه السجائر الخ؟ وقد تتعرض لكل شي: أن تضرب فقط لان شكلك لا يعجب الجندى؛ أو يتم التحرش بك أو اهانتك او حجزك لساعات او اعتقالك..... ويمكن ان يضيع وقتك بانتظار ساعات للمرور؛ وممكن أن تتنظر 5 دقائق؛ وممكن أن تخسر عملك وموعدك وزيارتك ومصلحتك. وقد تضطر أن تقطع عشرات الكيلومترات الاضافية لان الطريق المخصصة لك ولسيارتك مقفلة. وفى بعض الحواجز توجد مسارات لكل نوعية حسب ترقيم السيارات. وعلى الحاجز تختلط الاجناس والجنسيات فقد يتسبب وجود شخص اجنبي أوروبي بتعطيل السيارة بدعوى التدقيق وربما على العكس تماما قد تمر بسرعة لان من في السيارة أوربيين؛ حيث يمنح الجنود صلاحيات واسعة للإقرارات الشخصية بكيفية التعامل مع المستعمر ومع من يمر بحواجزهم.ويؤثر الحاجز على الناس وسلوكياتهم ومزاجهم وطرق تصرفهم مع بعضهم البعض وكيفية تصرفهم مع المستعمر؛ حيث يعكس الحاجز حالة الوضعية الاستعمارية المستعمرية بمنطق البير ميمى (Memmi) ؛ حيث يتذكر سكان الضفة الغربية وقطاع غزة ان الشباب في بداية اعادة انتشار جيش الاستعمار بعيد 1993 والمنخرطين لتوهم في الاجهزة الامنية للسلطة الفلسطينية في حينها قد اقاموا حواجز تحاكى الحواجز الاسرائيلية لتعيد للأذهان تقمص المستعمر لشخصية للمستعمر وفق تصورات فانون (Fanon ). ويمكن أن يصبح الحاجز مصدر رزق لمهمشين او بائعين فقراء فيبيعون الناس المكدسين والمذللين بانتظار لحظة العبور؛ وبل قد يخلق اقتصاد غير رسمي موسمي. وفى مشهد كفكوى وسيريالى في آن واحد قد يحدث أن يلجا اطفال كما في حالة حاجز أبوهولى السابق- دير البلح- في وسط قطاع غزة قبيل 2005 الى المغامرة بأجسادهم النحيلة ليقطعوا مسافة 300 متر نظير مرافقتهم لسائق مركبة ليسمح له الجنود بالمرور والتأكد بان السيارة ليست مفخخة او بها استشهادي. ويتندر الفلسطينيين بتسميات الحواجز تارة بالمعطات كاستعارة للأدوات المخصصة لخلع ريش الدجاج بعد ذبحه؛ وتارة بالحلابات كناية عن المسارات المخصصة للبقر لإدرار الحليب. وتعمل مؤسسات دولية على الحفاظ على الحواجز وفى كثير من الاحيان برعاية اوروبية من خلال تمويل شق طرق بديلة وتعبيدها بدلا من الشوارع الاصلية والتي أقام عليها المستعمرين الحواجز؛ وبهذا يصبحون شركاء في تنمية لا تمس خطط الاحتلال وهندسته، وينسحب هذا التوجه على تحويل الحواجز اللاعادية الى مشاهد مألوفة؛ كما وتفعل تيارات من القطاع الخاص الفلسطيني كشركة اتصالات فلسطينية والتي وضعت يافطة أمام حاجز قلنديا لتزويد المواطنين بخدمة الكترونية كيف الحاجز مما يؤسس للتعايش مع الحواجز ويسمح لها بتدوير اقتصادي. وكذلك تسعى المؤسسات الاستعمارية الاسرائيلية الى خصخصة الحواجز وتسلميها لشركات أمنية خاصة.؛ وكذلك تنشغل وزرات الاشغال الفلسطينية بالبحث عن مصادر تمويل لتحسين حركة السيارات على حاجز قلنديا مثلا- الذى يعزل القدس عن رام الله- و اقامة مشاريع بناء جسور الخ بدلا من طرح مشاريع تقوض الحواجز. وعلى الحاجز تتقاطع التجارب الفردية مع التجارب الجمعية... على الحاجز قد تتوقف عجلة الحياة والزمن، وقد تفقد الحياة.د. أباهر السقا، أستاذ علم الاجتماع، دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية- جامعة بيرزيت

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.