طلاسم

يجد المراقب البريء صعوبة بالغة في فهم ما يجري على الساحة السياسية الفلسطينية الداخلية، وبالذات موجة الإضرابات العارمة التي تجتاح الضفة الغربية هذه الأيام. فالمعلمون، الذين يشكلون حوالي ثلثي موظفي السلطة الوطنية المدنيين، أعلنوا إضرابا مفتوحا ابتداء من منتصف الثلاثاء القادم، وموظفو القطاع الصحي، ثاني أكبر قطاع في نظام الخدمة المدنية، الآن أيضا في إضراب مفتوح، وإلى جانب ذلك، يضرب كافة موظفي السلطة الآخرين يومين كل أسبوع، وبانتظام. العصي على الاستيعاب، أن هذا كله يأتي على أرضية تأخر السلطة في دفع الرواتب، إضافة الى مطالب نقابية أخرى لها كلفة مالية، في حين يعرف الجميع ان تأخر الرواتب، وصعوبة تلبية مطالب نقابية ذات كلفة مالية إضافية، يعود إلى أسباب سياسية تتمثل في تأخر إسرائيل في تحويل عائدات الضرائب، ووقف الولايات المتحدة مساعداتها للسلطة في آخر سنتين، إضافة لتأخر بعض المانحين العرب في الإيفاء بالتزاماتهم. وحتى نعقد الأمور أكثر، نذكر أنه عندما أعلن الرئيس محمود عباس أبو مازن، الذي تصادف أنه أيضا رئيس حركة فتح التي ينتمي إليها علنا الاكثرية الساحقة من قيادات النقابات الثلاث المضربة، عن نيته في الذهاب الى الامم المتحدة، وعندما أكدت كل من إسرائيل وأميركا جدية تهديداتهما له بالقصاص المالي، لم تبخل أي من القيادات السياسية والنقابية في بسط دعمها التام لقرار الرئيس بتحدي تهديدات الأعداء، والاعتماد على دعم ووعود الإخوة والاصدقاء، وما زال كثير من نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي يوردون كل يوم اقتباسات من بيانات دعم بعض القيادات النقابية على شاكلة أننا لن نمكن اسرائيل من أن تستخدم رواتبنا للضغط على القيادة السياسية. ومما يعقد اللسان في الفم، أن هذه الاجتياحات الإضرابية غير المسبوقة تتزامن مع تحركات شعبية متنامية منسجمة ومتضامنة مع تصاعد كفاح المعتقلين، وخاصةً المضربين عن الطعام، هذه التحركات الكفاحية التي بدأت تقلق الاحتلال وتقلق كل من يقلق من تقلقل «الاستقرار» في الضفة الغربية المحتلة. ولكن ما يساعد على فكفكة الطلاسم قليلا هو أن الهجوم النقابي مركز على الحكومة، في حين أن عجز الحكومة نابع من أن إسرائيل واميركا تعاقباننا على سلوك ومواقف سياسية سليمة وإجماعية اتخذتها القيادة السياسية بعيدا عن الحكومة، وبالرغم من أن حجز إسرائيل لأموالنا هو السبب المباشر للأزمة، إلا ان الاحتجاج لا يوجه لإسرائيل. ماذا يمنع، مثلا، أن يتجه جمهور المتضررين الى الحواجز الإسرائيلية للاحتجاج على سرقة أموالنا؟ أما تزامن هذا التصعيد مع فشل جهود المصالحة في القاهرة، الذي لم يعلن عنه حفاظا على الإنجازات السابقة، فلم أجد له تحليلا مقنعا، فإما أنه لا يوجد علاقة، أو أن أحد القراء الكرام يستطيع أن يكمل هذا التحليل بما فيه توضيح لهذه العلاقة إن وجدت، وإلى حين ذلك، سنبقى نتخبط في هذه الطلاسم.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.