ثقافة التبرع للجامعات بين الامكانيات وتقدير الأولويات

في إنجاز غير مسبوق لجامعة فلسطينية، أعلن تصنيف QS للعام 2018 دخول جامعة بيرزيت ضمن قائمته العالمية للجامعات التي تخطت الشروط المعيارية للتصنيف، والتي ينظر إليها كأفضل ثلاثة بالمئة من جامعات العالم التي يقارب عددها 26 ألف جامعة. وهذا التصنيف الذي يصدر عن شركة (Quacquarelli Symonds)  البريطانية يعتبر أحد أهم التصنيفات العالمية التي تعتمد على مجموعة من المعايير المستخدمة لقياس سمعة الجامعة ومؤشرات أدائها التعليمي والبحثي بالاضافة لانفتاحها على العالم. وبالتالي فإنه يحمل قيمة معيارية تتيح للجامعة تحديد احداثياتها على الخارطة المحلية والاقليمية والعالمية على أصعدة التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع، وبالتالي تلمس طرق التقدم على هذه الأصعدة.

ليس من شك بأن تقدم الجامعات وتطورها يعتمد على عاملين أساسيين وهما كفاءة الكوادر البشرية وتوفر الامكانيات المادية. وفي الحالة الفلسطينية، ومع وجود طاقات أكاديمية بشرية كثيرة داخلياً وخارجياً تلقت تعليمها في جامعات عالمية متقدمة، فإن التحدي الأساسي للتطور يكمن في توفير المقومات المادية اللازمة من أجل موائمة البنى التحتية للتعليم والبحث مع التغيرات المتسارعة، وتوفير أجواء محفزة للبحث والانتاج العلمي داخل الحرم الجامعي، وأجواء تشغيلية ملائمة للكادر الأكاديمي من ناحية المردود المادي والمعنوي، بالاضافة لتوفير موارد مالية تمكن الجامعة من الاستمرار في توفير المنح والمساعدات للطلبة المنتمين للشريحة الاقتصادية الاقل حظاً. هذا طبعاً مع بديهية توفر الارادة للتقدم والتطور بالرغم من المعيقات والمضايقات التي يفرضها وجود البلاد تحت إحتلال عسكري مقيت.

لقد أصبح تعبير الأزمة المالية ملازماً لأي حديث عن التعليم العالي الفلسطيني، وهو تلازم غير متجانس بطبيعته ولكنه اكتسب هذه الخاصية بفعل عوامل متعددة كتب وقيل الكثير حولها، وفي طليعتها ضعف الدعم المالي الرسمي، محدودية الايرادات الناجمة عن الأقساط والرسوم، تزايد الالتزامات المالية للجامعات تجاه عامليها مع مرور الوقت، بالاضافة للغياب الكبير لفرص الحصول على مدخلات مادية ناجمة عن تعاون الجامعة مع القطاعات الصناعية والانتاجية من حولها. 

ولكن، بحسب رأيي، فإن أحد العوامل التي لم يتم تسليط الضوء عليها بما يكفي يتمثل في ضعف ثقافة التبرع للجامعات. فبالنظر للواقع لدى كثير من المجتمعات المتقدمة علمياً، وعلى الرغم مما يشوب الموضوع من حسابات المصالح والدعاية التجارية لبعض المتبرعين، إلا أن ثقافة التبرع للجامعة تعتبر من التقاليد المجتمعية الراسخة. ولتكوين فكرة عن ذلك يمكن التدقيق مثلاً في تقرير لمجلة تايم الأمريكية صدر في بداية العام الماضي، والذي تشير معطياته إلى أن مجموع ما تم التبرع به للجامعات الأمريكية في العام 2015 وصل إلى 40.3 مليار دولار (1)، وبأن ثمانية من بين المتبرعين تجاوزت قيمة تبرع كل منهم 100 مليون دولار. ومن أجل التأكيد على أهمية هذه التبرعات في إبقاء الجامعات الأمريكية في صدارة قوائم التصنيفات الجامعية العالمية يكفي القول بأن جامعة ستانفورد قد حصلت لوحدها على 951 مليون دولار كتبرعات في العام 2016 من أكثر من 80 ألف متبرع. وكما يذكر موقع الجامعة (2) فإن جمع التبرعات يأتي من مصادر مختلفة وفي مقدمتها خريجو الجامعة وأهالي الطلبة وأصدقاء الجامعة، وبأن أقساط الطلبة -رغم ارتفاعها- لا تتعدى نسبتها 15 بالمئة من مداخيل الجامعة التمويلية، مما يمنح تلك الجامعة هامشاً واسعاً للتطور التدريسي والبحثي والاستثمار في انتاج المعرفة، ويبقيها ضمن قائمة الصدارة للجامعات العالمية. أما في دولة لها باع طويل في التكنولوجيا كاليابان فهناك شكاوى من ضعف تقاليد التبرع للجامعات، على الرغم من أن الجامعات اليابانية حصدت ما مجموعه 1.7 مليار دولار كتبرعات في العام 2014 لوحده (3).

في ذات السياق وبالنظر لنشأة الجامعات العريقة في الدول الغربية فهناك أكثر من مثال لجامعات أنشئت بتبرع سخي من شخص واحد أو عائلة واحدة فقط. فمثلاً أنشئت جامعة "McGill" الكندية الشهيرة في العام 1821 بتبرع من ملياردير كندي تحمل إسمه. وهذه الجامعة المصنفة  حالياً في المرتبة 32 عالمياً حسب تصنيف QS خرجت عدداً من القادة في مجالات مختلفة حول العالم، وحصل إثنا عشر من أساتذتها على جوائز نوبل، وكانت حاضنة لإنجازات علماء رواد من أمثال Rutherford (4). وفي محيطنا الإقليمي فهناك أكثر من مثال مشابه، ومن بينها جامعة "Bilkent" التركية التي تأسست في أواسط الثمانينات كأول جامعة وقفية (خاصة) في البلاد من طرف أستاذ جامعي ثري، لم يقتصر انجازه على التبرع السخي لصالح إنشاء الجامعة بل خاض نضالاً لدى دوائر السياسة والقرار استمر لأكثر من عشرين عاماً من أجل سن قانون يسمح ببناء جامعات وقفية حين كان ذلك غير مسموح به في الجمهورية التركية. واليوم أضحت هذه الجامعة تصنف في المرتبة 28 عالمياً بين الجامعات التي يقل عمرها عن خمسين عاماً بحسب تصنيف تايمز العالمي للعام 2015 (5).

فيما سلف بعض الأمثلة التي قد تثير الاعجاب أو تستدر الحسرة، ولكن المأمول هو استخلاص العبر وتسليط الضوء على دور المبادرات الفردية ودور الحيز الثقافي-المجتمعي بل والتشريعات والقوانين كذلك في اسناد الجامعات مادياً ومعنوياً والمساهمة في تطورها. وفي هذا السياق فمن الضروري التأكيد على ما يلي:

  • الجامعات الفلسطينية، بحكم خصوصية الوضع المحلي، تستحق اهتماماً فريداً متواصلاً يليق بدورها الحي ضمن المنظومة الوطنية والمجتمعية، ويدعمها ويصون فيها جدارة البقاء كجامعات بني جلها بتبرعات أبناء الشعب الفلسطيني ومؤسساته الوطنية ومن يساندهم من المتبرعين العرب تحت وطأة ظروف غير مواتية، وخرجت ولا زالت الكثير من الكوادر والكفاءات رغم شح الامكانيات والمعيقات الموضوعية.
  • على الرغم من عدم وجود احصائيات دقيقة إلا أنه من الجلي أن الجامعات العربية تعاني بشكل عام من محدودية كبيرة لنصيب التبرعات في مداخيلها التمويلية، وليس من الخافي بأن ذلك لا يرتبط بضعف الموارد والامكانيات في المجتمعات العربية بقدر ارتباطه بتقدير الأولويات لدى المتبرعين، وبعدم إيلاء الاهتمام اللازم للعلم كرافعة للتنمية الاقتصادية والثقافية والمجتمعية. في هذا المعرض تجب الإشادة بالقلة من أصحاب الأيادي السخية الذين تلمس مساهماتهم بشكل واضح في الجامعات الفلسطينية على وجه الخصوص.
  • في ظل محدودية الدعم الحكومي، فإن الكثير من الجامعات الفلسطينية تعتمد بشكل أساسي في تمويل أنشطتها على أقساط الطلبة. وهذا يتطلب من الطلبة ومن ذويهم –لا سيما المقتدرين منهم مادياً- إدراك أهمية الالتزام بدفع الأقساط الجامعية على أقل تقدير من أجل ديمومة الجامعات وبقائها. فأي عزوف للمقتدرين عن القيام بذلك لن ينتقص فقط من قدرة الجامعات على الإيفاء بالتزاماتها تجاه عامليها، بل سيضعف كذلك من قدرة تلك الجامعات على توفير المنح والمساعدات المالية للطلبة الأقل حظاً من الناحية المادية، والذين يجب الحرص وبشدة على أن لا تكون حاجتهم المادية عائقاً أمام استكمال تحصيلهم الدراسي.
  • من الضروري الإلتفات لدور خريجي الجامعات في القيام بكل ما من شأنه الإرتقاء بمكانة جامعاتهم وعلى رأس ذلك تعزيز مواردها المالية من خلال المساهمة في التبرعات التي تجمع لأجلها وفتح آفاق جديدة لصالحها. وفي السياق الفلسطيني فالأمر لا يخلو من خريجين كانت لهم مساهمات متميزة في هذا المجال، إلا أنه رغم ذلك من غير الواقعي الحديث عن وجود ظاهرة تدعم مثل هذا التوجه. وللموضوعية فإن مسؤولية ذلك لا تقع على الخريجين فحسب، بل تلام فيه الجامعات التي لم تنجح في ايجاد قنوات التواصل مع الخريجين للإفادة مما يمكنهم القيام به.
  • إلى جانب الدعم المادي للجامعات المفترض توفيره من جانب الجهات الرسمية والخاصة، فإن هناك حاجة أيضاً لبلورة تشريعات وقوانين تضمن تمتع الجهة المتبرعة بتسهيلات ضريبية، كما هي الحال في الدول التي تجذر فيها تقليد التبرع للجامعات ولمؤسسات التعليم العالي.

ختاماً، وفي ضوء الضائقة التي تعاني منها كثير من المؤسسات التعليمية في العالم العربي، يجدر التذكير بالدعوة التي صدرت في العام الماضي عن المرحوم الدكتور عبدالله محارب الذي كان يشغل منصب مدير عام المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "ألكسو"، والتي حث من خلالها أثرياء الوطن العربي على التبرع السخي لدعم التعليم في العالم العربي (6)، مشدداً على أهمية مشاركة المجتمع المدني في دعم العملية التعليمية والنهوض بالواقع التنموي للمجتمعات العربية.

مراجع :

  1. http://time.com/money/4195204/2015-donations-colleges-universities
  2. http://facts.stanford.edu/administration/finances
  3. http://blogs.wsj.com/japanrealtime/2015/04/07/japan-universities-look-for-more-donations-and-investing-expertise/
  4. https://www.mcgill.ca/about/points-pride
  5. https://en.wikipedia.org/wiki/Bilkent_University
  6. http://www.alecso.org/site/events/press/777-10.html

 

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.