ملاحظات حول انتخابات الرئاسة الأمريكية (2 من 3): انتخابات 2016

يمكن تلخيص حملات الانتخابات الرئاسية الأمريكية بأنها عمليات مركبّة ومعقدّة ومديدة، ما يعني أنها متطلّبة للوقت ومرهقة للجهد ومستنزفه للمال.  والمثير أن هذه التكلفة، بالجهد والوقت والمال، هي في تصاعد مستمر مع كل حملة انتخابية عن سابقتها، وللدرجة التي أصبحت تتطلب من المرشحين التمتع بقدرات عالية، ليس فقط على التحمّل، وإنما على حشد الأموال الذي يعرّضهم لإمكانية الخضوع لابتزاز المتبرعين لهم، ما يعني التدخل والتأثير على قراراتهم وسياساتهم. ولكن، في المقابل، أصبحت هذه الحملات، من الناحية الايجابية، وسيلة أكثر فاعلية في مجال تمحيص المرشحين، وفحص كل جوانب حياتهم، وامتحان آرائهم ومواقفهم، للدرجة التي تفقدهم جميع جوانب خصوصية حياتهم.

كانت عملية انتخابات عام 2016 الأكثر وقعاً من سابقاتها في كل المناحي، بكل الأبعاد وجميع المقاييس.  فقد تخطت الحملات السابقه ليس فقط في الأمور المادية، كحجم الإنفاق وعدد الموظفين والمتطوعين المشاركين في الحملات الانتخابية على صعيد الولايات، وإنما في قضايا أكثر جوهرية وحساسية تتعلق بأسس الحياة السياسية الأمريكية، ونظرة أمريكا إلى العالم ودورها فيه.  وليس من الواضح الآن كم ستستغرق أمريكا من الوقت، وكم ستمر بعثرات، كي تتخطى المحنة التي مرّت بها بسبب هذه الانتخابات، وتتمكن من إعادة لمّ شملها وتحديد أهدافها وخطّ مسارها. إنها المرّة الأولى التي تكون فيها الانتخابات الرئاسية مثار فزعةٍ بهذه القوة، وفزعٍ بهذا الحجم، في أمريكا. وقد تناقل العالم الصدى، وهو الآن بانتظار المخرجات.

كانت الحملة الانتخابية لعام 2016 أكثر الحملات سلبيّة في تاريخ الولايات المتحدة المعاصر. فقد كانت حملة توغلّت في ثنايا الخشونة والشعبوية والفضائحية، وارتكزت على الشخصنة، وفتحت آفاق الريبه والشك في القيم الإيجابية المنظمة للحياة السياسية في البلاد. ابتدأت هذه الحملة شرسة خلال الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الجمهوري، والذي شنّ خلالها المرشح دونالد ترامب هجوماته واتهاماته اللاذعة على منافسيه العديدين مؤدياً إلى تساقطهم بالتتابع، ليفوز في النهاية بترشيح الحزب الذي أصاب بنيانه التمزق بسبب حملة ترامب الهوجاء. ودخلت عملية الانتخابات الرئاسية في منزلق أعمق عندما بدأت الحملة الانتخابية بين المرشحيْن الرئيسيْن هيلاري كلينتون ودونالد ترامب.  فقد خرجت هذه الحملة عن نطاق الالتزام بعرض الاختلاف في البرامج والرؤى والخطط،  لتُركزّ على إبراز الجوانب السلبية لكلا المرشحين، فتم كيل الاتهامات وتبادل الشتائم والتهكمات التي أوصلت الحملة إلى قاع القاع، فأصبحت مجالاً للتسلية والتندر داخل وخارج أمريكا على السواء.  لقد انحدر مستوى الخطاب السياسي الانتخابي مع هذه الحملة إلى مستوى متدني غير مسبوق، ليس في أمريكا فحسب، وإنما مقارنة مع الأخريات من الديمقراطيات.

كذلك، كانت هذه الحملة الإنتخابية الأكثر انقسامية وتفرقة واستقطابية على المجتمع الأمريكي الذي انقسم عمودياً إلى فريقين تعدّيا مستوى المنافسة، وصولاً إلى مستوى العداوة.  لقد أدت هذه الحملة الانتخابية إلى إحداث شرخ عميق، وربما غائر، في نسيج المجتمع الأمريكي الذي انقسم إلى فريقين. أحدهما، والذي حاولت كلينتون أن تمثلّه، تجميعي وتوفيقي بين مختلف فئات المجتمع، بما فيها أقلياته الاثنية والدينية والعرقية، من أفارقة أمريكيين ولاتينيين، ومسلمين، يضاف إليهم الشباب والنساء، ليتشكل منهم تجمع قوس قزحي يمثل أطياف المجتمع الأمريكي، ويعكس قيمهم ويُقدّم مطالبهم ورؤاهم. بالمقابل، تمحور الفريق الآخر الذي أبرز المرشح ترامب وجوده داخل ثنايا المجتمع الأمريكي حول الانغلاقية- التفريقية التي تجد أصولها في الفكر الانعزالي- العنصري. هذا الفريق المتشكّل من اليمين الأبيض، وتأتي قوته من أفراد الطبقة العاملة البيضاء غير المتعلمة تعليماً عالياً، يدفع باتجاه اتخاذ مواقف عدائية من الأقليات والمهاجرين، ويحمل توجهات سلبية تجاه الآخرين في العالم، ويطالب بإعادة الاعتبار لمكانة أمريكا على الصعيد الدولي من خلال استخدام الحزم والقوة الرادعة.

هذا الانقسام الحاد بين الفريقين، تكويناً ونظرةً وتوجهاً، أصبح يتخذ مع مرور أيام هذه الحملة الانتخابية الخشنة أبعاداً انقساميةً حادةً زادت تعمقاً وصلابةً. وأدى هذا التطور الخطير الذي وصل إلى التلاسن والتعارك بين أفراد الفريقين في مواقع مختلفه إلى إطلاق دعوات بدأت قبل يوم الاقتراع لإعادة اللحمة للمجتمع الأمريكي، ومعالجة أسباب ودواعي الفرقه والانقسام داخله، والذي بلغ درجة مقلقه تنذر بالانفجار.

لقد وصل الحدّ بهذا الفريق الثاني، وبقيادة وتشجيع من المرشح ترامب، إلى درجة إطلاق العنان لنزعة تمردّية ضد الحكومة الفيدرالية، ممثلة بواشنطن العاصمة، وسياسييها المتهمين بالفساد وعدم إيلاء مصالح الشعب الاهتمام الكافي. ومن خلال طرح نفسه كمرشح للتغيير ياتي نظيفاً من خارج نطاق السياسيين الملوثين، ليقابل مرشحة السلطة كلينتون التي يتهمها بالفساد والإجرام، بدأ ترامب بتأجيج مشاعر الأمريكيين اليمينيين الذين يشعرون بالعزلة والاحباط من قبل الحكومة الفيدرالية وسياسيي واشنطن. وبدأ هذا التأجيج يأخذ مفعوله ليتعدى الموقف العدائي تجاه مجرى الحياة السياسية الأمريكية الحالية، وخاصةً خلال فترتيْ حكم أوباما، ليصل إلى جوهر المبادئ الديمقراطية التي يقوم عليها النظام السياسي الأمريكي.

لقد تجلى هذا الأمر في تلكؤ ترامب عن اعلان التزامه المسبق بقبول نتائج الانتخابات في حالة خسارته لها، وفي تماديه من خلال التأكيد المستمر بأن النظام الانتخابي الأمريكي معطوب، يعمل ضده ولصالح النظام الذي يريد ترامب تغييره. ومع أنه هوجم من قبل الحزب المقابل، وحتى من قبل قيادات في حزبه، على هذه الاتهامات غير المدعّمة بوقائع وحقائق، إلا أنه بقي يدفع بها في تجمعاته الانتخابية، ليثير مؤيديه للدرجة التي وصلت ببعضهم للاعلان عن النّية بالتّمرد على واشنطن إن لم ينجح ترامب في الانتخابات. لذلك إزداد القلق داخل أوساط عديدة في أمريكا من عدم القدرة على السيطرة على مشاعر البعض من الفريق المؤيد لترامب، والذي قد يبدأون بأخذ القانون بأيديهم.

أما وقد نجح ترامب، والفريق الانغلاقي – التفريقي الذي يمثلّه، في الانتخابات، فإن عليه وهو يستعد خلال الشهرين المقبلين للدخول إلى البيت الأبيض، أن يعمل جاهداً لتخفيف حدّة خطابه وتقليص حجم توقعات مؤيديه من التغيّر الممكن، وليس المأمول، في سياسات واشنطن. ولكن الأهم يبقى في ضرورة أن يتمكن الرئيس المنتخب من أن يطوي بسرعة صفحة الانقسام العميق الذي أصاب المجتمع الأمريكي وكان هو أحد أهم مفجّريه، وأن يستطيع، وبسرعة، إعادة اللحمة الداخلية ويكلم الجراح العميقة التي أصابت أمريكا بسبب هذه الحملة الانتخابية الرئاسية.

أما إن كان يريد ذلك، ويستطيع تحقيق ذلك، فهذا ما ستجيب عليه الأيام القادمة، وهو ما سيكون أهم ما سيراقبه المراقبون حول التحولات الجارية في مجرى الحياة السياسية الأمريكية القادمة.

لقد كانت انتخابات الرئاسية لعام 2016 مفصلية، وسيكون لها نتائج تغييرية بعيدة المدى داخل أمريكا، وفي مجال العلاقات الدولية أيضاً.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.