السؤال الولجي

كانت أول مرة أسمع فيها عن الولجة، يوم قالت "ستي فاطمة" وهي ترتدي الثوب المطرز بالأرجواني القاني، "انشقت العتمة عن ابن الولجي ضرب الزجاجة واشتعلت الدنيا وهرب".
كان ذلك أواسط الثمانينيات، وتشاء الأقدار، أن أصبح وذلك الولجي أصدقاء. وهو لا يسكن الولجة التي جاء منها باسل الأعرج، الذي قتله الإسرائيليون هذا الشهر في "البيرة"، فكان لاستشهاده صدى تردد وسيتردد في فلسطين وخارجها. بل كان في مكان آخر قريب من القدس، وتحديداً قريب من المكان الذي أحيا فيه المسيح، بأمر ربه، صديقه اليعازر من الموت، بعد أن رجته أختاه مرثا ومريم فعل ذلك. وأخبرني صديقي "الولجي" بعد ثلاثين عاماً من قصة جدتي، عما فَعلَهُ حينها، وهي القصة التي نَقشَت في عقلي، وأنا الفتى حينها، تطريزاً أحمر قانيا باقيا، عن ولد حَمَل ثَورته وهاجم الجند بزجاجة مشتعلة. أخبرني أنّه حينها، وكان في السادسة عشرة من عمره، وبعد أن اعتقله الصهاينة، ووضعوه في معتقل للأشبال، فوق جبل الكرمل الأسطوري الجمال، قرر وصديقه الهرب، ليس تمرداً على الاعتقال أو بسبب ضيق الزنزانة وحياة السجن، ولكن لأنه قرأ في "أدبيات الثورة" أنّ مرحلة حرب التحرير الشعبية، آتية، ولم يكونا يريدان تفويت شرف ومسؤولية المشاركة فيها، وربما لحسن حظهما انتهت مغامرتهما بالقبض عليهما على سور السجن، ولم يصل الأمر حد قتلهما. وأخبرني كيف أنّ حرب التحرير الشعبية، تبدت لاحقاً بعيدة المنال بسبب "انحرافات" مسلكية وتعثر الأداء.
في تموز 1968، وقف يوسف صايغ في المجلس الوطني الفلسطيني، وحينها كانت الفصائل الفدائية في أوج صعودها وتشكل البارقة الجديدة في الشرق بأسره، ليتحدث عن أولئك الذين يعبرون النّهر. قال يومها كلاماً ربما لو سمعه شاب من الولجة مثل باسل الأعرج لطرب له، قال "التخطيط أمرٌ ضروري حتى على مستوى دكان صغير (...) وحين تقررون كجماعة مقاتلة، مهاجمة إحدى التلال أو احتلال موقع ما، يجب أن تأخذوا في الاعتبار ما إذا كان الموقع يستحق التكلفة، أي تحمل الخسائر في الأرواح، وهذا يعني أن عليكم أن تخططوا". كان يخشى أنّ "رجال المقاومة كانوا غير منظمين". ويومها وقف المجلس الوطني مصفقاً مهللا متحمساً لرأيه، وخالف النظام وقرر بالإجماع إضافته عضوا في اللجنة التنفيذية للمنظمة، مسؤولا عن مركز للتخطيط، وبعد جهد جهيد وتعقيدات أمنية وإدارية وضع خطة وقدمها للقيادة، وظل يوماً بعد آخر، أسبوعاً بعد أسبوع، وشهراً تلو آخر، وسنة بعد أخرى يلح أن اقرؤوا الخطة، ووصله لاحقاً أنّ أحد أعضاء اللجنة التنفيذية، قال "ثورة وتخطيط ما بيصير".
في الولجة، على البوابة الجنوبية الغربية للقدس، عشرون نبع ماء، ولكن المياه ممنوعة الآن بأمر الاحتلال، ويصادَر جزءٌ منها للاستيطان. ويعتقد أهلها أن شجرتهم "زيتونة أحمد البدوي"، نسبة لأحد "أولياء الله الصالحين"، هي أقدم شجرة في العالم، قطرها 25 مترا، وعمرها 5500 عام، ولها حارس وخادم، ويؤمّها الزوار. وفي الولجة أيضاً جدار العزل العنصري، وهناك عمر حجاجلة الذي جاء بيته خلف الجدار، ففجروا بالقرب من المنزل لعله ينهار، فصمد، وحفروا حوله خندقا ووضعوا أسلاكا تجعله كالقفص، فرفع قضايا وكسبها في المحاكم، فجعلوا لبيته نفقا تحت الجدار، لا يصل إلا إليه. 
كان باسل حائراً يفكر كيف يجري التخطيط الأمثل للعمل الثوري، لم يكن يريد خطة طويلة الأمد، ربما أدرك أنّ هذا أمر واقعي، بل يريد تفكيرا للفعل اليومي، دليل عمل لكل فرد. والواقع أنّ الثورة والتخطيط بعيد المدى ممكنان بقدر محدود فقط، ولكن على المستوى اليومي فلا بد من غرس وعي يجعل كل رد فعل، وكل فعل، يستندان إلى فهم حقيقي للهدف البعيد، ويستندان لالتزام أخلاقي وروحي معينين. والسياسة بقدر ما تحتاج تخطيطا وفكرا، بقدر ما أنّ استلهام الهوية في التطريز، والنغمة، والشجرة، والقصة، واللمسة، والتعاملات اليومية، يمكن أن تكون دافعاً للسلوك السليم والمبادرة في كل لحظة.
من صديقي الولجي، إلى عمر الولجي، إلى باسل الولجي، سؤالٌ عما يجعل الالتزام والمواجهة جزءا من حياة يومية في كل شأن، عن صناعة الإنسان.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.