إضاءة على النشر العلمي المفتوح

كما هو معلوم فإن نشر النتائج البحثية والدراسات والتقارير والكتب العلمية يعتبر عملية ضرورية من أجل نشر المعرفة والمساهمة في تبلورها التراكمي عبر الزمان والمكان. منذ البداية فقد شكلت الكتب والدوريات والمجلات العلمية المطبوعة، والتي تميزت بكونها في الغالب غير ربحية، أداة رئيسية في عملية النشر وتقاسم المعرفة، ولكن بعد التزايد الكبير في أعداد تلك الدوريات والأوعية العلمية فقد برزت شركات للنشر استقطبت الكثير منها ومأسست عملية تقديم وتقييم ونشر الأوراق والكتب العلمية، ولكنها كرست البعد التجاري في موضوع النشر العلمي. وبحسب دراسة قام بها باحثان بريطانيان(1) فقد حققت شركات النشر الكبرى أرباحاً كبيرة من عملية النشر تقدر بمئات الملايين من الدولارات سنوياً، في الوقت الذي فرضت فيه رسوم اشتراك كبيرة على المؤسسات العلمية، وذلك بالرغم من استفادتها المجانية من المجتمع الأكاديمي الذي ينتج مؤلفوه ما ينشر ويقوم أعضاء آخرون فيه بعملية تقييم ما ينشر وما لا ينشر من خلال الحكام وأعضاء هيئات التحرير.تقليدياً، فإن جمهور عملية النشر العلمي يتشكل من أطراف ثلاث: المؤلفون، القراء ، بالإضافة إلى هيئات التحرير والحكام. وقد بني نموذج النشر التقليدي في الكتب والدوريات العلمية العالمية المحكمة بحيث لا يدفع المؤلفون مقابلاً مادياً لقاء نشر أعمالهم، ويقوم الحكام من النظراء بتقييم تلك الأعمال طوعياً، وبالتالي تقع التكلفة المالية على كاهل القراء سواء على شكل اشتراك فردي أو من خلال اشتراكات مؤسساتية، يرصد لها مبالغ سنوية كبيرة. وقد شهدت العقود الأخيرة أزمة تمويل لدى الكثير من مكتبات الجامعات والمؤسسات ذات الصلة عرفت ب Serials Crisis(2) نجمت عن الارتفاع الكبير في رسوم الاشتراك مقابل الانخفاض في الميزانيات والمخصصات الذي تعاني منه مكتبات وجامعات كثيرة حول العالم.خلال العقدين الأخيرين، ومع التطور الالكتروني الواسع، فقد برز نموذج جديد للنشر يعرف بالنشر أو الوصول المفتوح (open-access publishing). وفي هذا المضمار لا يجب إغفال عامل ارتفاع تكاليف الاشتراك في قواعد البيانات، والتحولات التمويلية التي طرأت على ميزانيات الجامعات الكبرى وتعاظم دور البحث العلمي بمدخلاته ومخرجاته ضمن تلك الميزانيات كعامل موضوعي هام ساهم في الدفع باتجاه انفتاح أكبر على المستجدات والنتائج البحثية. وهذا الموضوع من الأهمية بمكان مما حدى ببعض الخبراء لاعتبار أن مستقبل الأكاديميا متعلق به. يقوم النموذج الجديد بالأساس على تحميل كلفة النشر المالية لمؤلف العمل المنشور أو لمؤسسته، وبالمقابل إتاحة المجال بشكل واسع للقراءة المجانية لما ينشر. وتتراوح الكلفة، التي عادة ما يتم تمويلها من المشاريع البحثية للمؤلفين أو من مؤسساتهم، بين مئات إلى آلاف الدولارات للمقالة العلمية الواحدة تبعاً للوعاء ولدار النشر، علماً بأن هناك حالات تحددها دور النشر تمكن المؤلف من المطالبة بالإعفاء من تكلفة النشر. وقد اجتذب هذا النموذج الكثير من المؤلفين والمؤسسات ونما بشكل سريع في العقد الماضي. فبالاضافة لشركات النشر التي نشأت حديثاً ضمن رؤية النشر المفتوح، فقد أضحى الكثير من الدوريات المرموقة الصادرة عن دور النشر التقليدية يتيح هذا النموذج كخيار أمام المؤلفين. وبالامكان الاطلاع على قائمة بدور النشر التي تتيح نموذج النشر المفتوح من خلال موقع جمعية OASPA على الانترنت (3).استناداً للكثير مما كتب حول الموضوع ولما تذكره مواقع دور النشر فإنه يمكن تلخيص الايجابيات المترافقة مع نموذج النشر المفتوح بما يلي:إتاحة الوصول للمنشورات العلمية من أماكن كثيرة حول العالم، الشيء الذي يكتسب أهمية خاصة في الدول النامية والفقيرة حيث يعاني الباحثون والمكتبات والمؤسسات التعليمية بوجه عام من محدودية القدرة على الاشتراك في قواعد البيانات والأوعية الناشرة لنتائج لأبحاث.إتاحة وصول الجمهور العادي ومؤسسات المجتمع المدني للنتائج البحثية داخل الدول التي يتم فيها البحث بهدف زيادة تفاعل ذلك الجمهور مع البحث ونتائجه وتوسيع دائرة المعرفة العلمية.nbsp;دعم العملية التعليمية والتدريسية، خصوصاً في مساقات السنوات المتقدمة والدراسات العليا، من خلال إتاحة النتائج والمستجدات البحثية دون مقابل لاستعمال الطلبة والاساتذة في مؤسسات التعليم العالي.زيادة عدد الاقتباسات أو الاستشهادات للمقالات والابحاث المنشورة.nbsp;تنشيط وتسريع الدورة البحثية من خلال إتاحة النتائج البحثية أولاً بأول للباحثين حول العالم.ولكن بالرغم مما سلف فإن منتقدي نموذج النشر (أو الوصول) المفتوح يعددون مشاكل هامة تواجهه وتستوجب معالجات جدية. ومن أبرز تلك المشاكل ما يلي:يحتاج الباحث لدفع مبالغ معينة كي يتسنى نشر نتائج ابحاثه، وهذا قد يحد من انخراط الكثير من الباحثين، ممن ليس لديهم مشاريع بحثية ممولة، في عملية النشر أو تركيز النشر في أوعية أقل جودة تنشر بتكلفة أقل.nbsp;بما أن الدوريات والأوعية العلمية تقوم بتغطية تكاليفها من مردود ما تنشر، فإن ذلك قد يدفع البعض لنشر عدد كبير من المقالات والأبحاث ويثير بالتالي تحديات ضبط الجودة والتأثير على عملية تقييم النظراء، والتي تعتبر عصب الحياة لحيادية النشر العلمي ونزاهته. وليس خافياً أن مجال النشر العلمي المفتوح يعاني حالياً من انتشار دور نشر تفتقر للمعايير الرصينة في عملية النشر وتسلك منحى يوصف بأنه يمثل اتجاراً بالنشر العلمي دون كثير التفات لعملية تحكيم النظراء أو لجودة ما ينشر. وفي هذا السياق فإن حادثة نشر مقالة مزيفة في 157 دورية تتبع نموذج النشر المفتوح، والتي كتبت عنها الغارديان(4)، لا زالت ماثلة في ذاكرة الأوساط الاكاديمية كعبرة مؤثرة. ولكن يجب التأكيد في هذا المضمار على أن مثل هذه الممارسات أدت لبروز مواقع يمكن الاستعانة بها للتحري عن الدوريات قبل النشر فيها مثل DOAJ، thinkchecksubmit، والى وجود ما يعرف بقائمة بيل Beall’s List والتي تدرج دور نشر و دوريات علمية تتهم بالمتاجرة الضارة بالبحث والنشر العلمي(5،6،7).مسألة الاستدامة للأوعية ولشركات النشر. هناك الكثير من المشككين في قابلية هذا النموذج للاستمرار لفترة طويلة. فمثلاً يرتبط وجود واستمرارية مجلة علمية ما بتوفر ميزانيات تمويلية تضمن إقبال الباحثين على النشر فيها، مما يعني أن عزوف الباحثين عنها لسبب ما قد يؤدي لإغلاقها حتى لو كانت تحرص على النشر بجودة علمية رفيعة.بالإضافة لما سلف ينبغي التوضيح بأن نموذج النشر المفتوح ينطوي على أشكال متعددة لإتاحة المنشورات للقراء ولدرجة احتفاظ المؤلفين بحقوق النشر وإعادة الاستخدام. ومن بين الأشكال الأكثر شيوعاً يمكن تعداد الشكل الذهبي والشكل الماسي والشكل الأخضر للنشر المفتوح. بالنسبة للشكل الذهبي فالمقصود أن تتاح المنشورات للقراء بشكلها النهائي فور قبولها للنشر في الأوعية العلمية. أما الشكل الأخضر، والذي لا يرتبط حصرياً بنموذج النشر المفتوح، فيتطلب انقضاء فترة زمنية معينة قبل إتاحة المنشورات بشكلها النهائي للقراء، مع امكانية أن يقوم المؤلفون قبل ذلك بتحميل نسخ أولية من منشوراتهم على مستودعات المنشورات التابعة لمؤسساتهم أو لمؤسسات أخرى غير تجارية. أما الشكل الماسي، وهو الأحدث نسبياً والذي يسعى المدافعون عنه لتخفيف تأثير البعد التجاري لعملية النشر، فيرتبط بإتاحة المنشورات دون أن يتحمل القراء أو المؤلفين تكلفة النشر، الأمر الذي تتم معالجته بجهود تطوعية في الغالب بحيث تصبح عملية النشر غير ربحية(1).ختاماً، لا زال موضوع النشر أو الوصول المفتوح يتفاعل ومآله غير واضح بشكل قطعي. ولكن مع ثورة المعلومات الالكترونية وسهولة ما يوصف ب عولمة المعرفة من جهة، وارتفاع تكاليف الاشتراك التي تفرضها دور النشر التقليدية من جهة أخرى، فإنه لا يبدو واقعياً أن يحافظ النموذج التقليدي للنشر على وجوده بالشكل المعهود. وليس أدل على ذلك من تبني الكثير من الدوريات الصادرة عن دور نشر عريقة لنموذج مختلط يجمع بين النموذج التقليدي وهذا النموذج. من هنا فإنه ينبغي الانفتاح على موضوع النشر المفتوح جنباً لجنب مع المحاذرة من الوقوع في شرك جهات ناشرة مغمورة هدفها تحقيق الربح على حساب جودة ما تنشره. وهذا يفرض تحدياً طالما كان موجوداً يتمثل بالعثور على الأوعية العلمية المناسبة لنشر الانتاج العلمي والبحثي بغض النظر عن نموذج النشر الذي تتبناه. ومع وجود قواعد للبيانات تصنف الأوعية الموثوقة وتقيس مستويات أدائها بناءً على معايير واضحة كمستوى هيئات التحرير والالتزام بتحكيم النظراء وعدد القراءات والاستشهادات التي تحصل عليها الدوريات والكتب، فلعله لدى جمهور المؤلفين المحتملين من هذه الوسائل ومن غيرها ما يعينهم على انتقاء الأوعية المناسبة لنشر نتاجهم العلمي.أ.د. طلال شهوانعميد الدراسات العليا-جامعة بيرزيتمراجع:(1) http://openaccess.city.ac.uk/3078/1/The%20Diamond%20Model%20of%20Open%20...(2) https://en.wikipedia.org/wiki/Serials_crisis(3) http://oaspa.org/membership/members(4) http://www.theguardian.com/higher-education-network/2013/oct/04/open-acc...(5) https://doaj.org (6) http://thinkchecksubmit.org (7) http://scholarlyoa.com/publishers

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.